مقبرة

22 ديسمبر 2017
فخري رطروط/ فلسطين
+ الخط -

لم تكن مقبرة حقاً، أعني لا تشبه المقابر كثيراً، فليس من سورٍ حجري أو من حديدٍ له نصالٌ ذهبية... وأُسودٌ من حديدٍ في السورِ، وسوى ذلك، ما من سورٍ هناك أصلاً، ولا غير ذلك مما يشبه المقابر، مثلاً أشجارٌ قديمة قاتمة وممرات ٌمزروعة أو مرصوفة من حصى أو أحواض حجرية في مقدمة القبور... ثُم في الأعياد يضعون فيها عروق الآس، زيزفوناً وأزهاراً...

مجرد قبورٍ من طينٍ أبيضَ خفيضٍ مدوّر، تناثرت بجوانب رابيةٍ، مدوّرةٍ بدورها.

ما من زوايا أو حافاتٍ حادةٍ كتلك التي يكوّنها الرخام ُوالحجر، ما من شاهداتٍ حجرٍ طويلة- أو قصيرة- كتبوا عليها بخطوطٍ فخيمة عباراتٍ عظيمة المعنى، أو من بلاطة رخام ودرجاتٍ قليلة عند المقدمة، تلك المقدّماتُ التي تدل عادةً أين يقع الرأس، المقدّمات تلك التي تدلّ، هكذا حَسِبت مرة، إلى أي اتجاه ستمضي القبور، بمعنى أن تذهب جميعها إلى جهة واحدة، كأنها سفن مثلاً...

وفي الحقيقة قبل أن أرى هذه المقبرة لم أفكّر مرة بهذا، أعني لم ألحظ حقيقة أن القبور تتوازى ومقدماتها تتجه جميعاً في جهة واحدة كأنها قوارب صغيرة تمضي معاً إلى جهة ما.

مقبرة بدون حارس ولا سور وبلا حفارِ قبورٍ، لم أتخيل لها حفارَ قبورٍ يستدعونه حين ثمة جنازةٌ ما وموتُ أحدٍ ما، بلا سورٍ وتستطيع أن تتنـزّه فيها متى شئتَ، ما من مدخلٍ لها فتقول من هنا أدخلُ ومن هناك أنتهي، هي هكذا مفتوحة تتمدد في السُهب الرملي، مثلها مثل السُهبِ ترى من نهايتها -من كل نهاياتها- في الشتاء الثلوجَ التي تغطي حرمون بالأبيض.. السماوي شيئاً ما، ويغرقها المطر حين يُغرق السُهبَ والريحُ تَسِفّ بها كما تسفّ بالسُهب.

لم تكن تلةً حتى، كما يمكن أن تفكر في تلةٍ، أعني صخوراً في جهةٍ، وأعشاباً أو انهداماتٍ في الجوانبِ، ربوة من أرض شاسعة بلا حدود، بيضاء ومدوّرة وفسيحة، ولا ترتفع عن الأرض إلا قليلاً.

نعم تشبه تلةً ولكن لا تربو عن الأرض إلا بمقدار ما، عبر ألف سنة، لا أعرف، ربما بضع مئات من السنين، راكموا فيها أجساد من ماتوا، راكموها وفوقها الترابُ، ببطء واحداً واحداً، فكّرت أنهم هكذا كوّنوا ببطىء شديد رابية من الأرضِ، وأن ما من غرضٍ لها أو وظيفةٍ، مجردُ رابيةٍ من الأرض... أجيال وراء أجيالٍ كانت في النهاية تمضي من هنا إلى عدمٍ ما، عدمٌ ما ينشئ مرتفعاً من الأرض، كأن كل حيواتِ هؤلاء الذين ماتوا لم يبق منها ما يُلمس ويُرى سوى هذه الرابية من أرض بيضاء.

ومرّات في الليل -مرّتين تحديداً- وأنا أمرّ مسرعاً بجانبها ذاهباً إلى بيتي (الطريق إلى بيتي يمرّ من على مسافة مئة مترٍ منها تقريباً ثم ينثني بعيداً عنها) رأيتُ، كما يرى عابرٌ في آخِر الليلِ، أن ثمة شخوصاً هناك، حوالي عشرة، يقفون حول نارٍ كبيرةٍ أشعلوها وثمة شررٌ يطيرُ، وألسنةُ لهبٍ عالية تضيئهم وتضيء القبور، لم أتوقف لأسألهم لماذا، ومن يكونون، بقي المشهد في ذاكرتي هكذا: شخوصٌ في الليلِ أشعلوا ناراً عند المقبرة.

مجرد مقبرة، لا تدل على شيء ما -فلسفياً مثلاً- ولا تفضي لشيء... ليست كنايةً عن فكرةٍ "وجوديةٍ" مثلاً، ولا تحمل معنى ما "رومانسياً"... أو غير ذلك، ربما تدلّ، أكثر ما تدلّ، كونها ما زالت هناك، على أن أرضنا Terra ما زالت في استقرارٍ ما، تمرّ بين عصرينِ جليديين...

* شاعر سوري مقيم في باريس

دلالات
المساهمون