تشهد العاصمة الأردنية عمّان، منذ سنوات قليلة، طفرة على صعيد انتشار المقاهي "الحديثة"، في الأحياء الراقية والوسطى على نحو خاص، فهناك تجد مقاهٍ شبابية تتميز بالصخب والحيوية، كما تلاحظ المقاهي ذات الحضور الاجتماعي المتمثّل في حضور العائلة حيناً، وفي تحول المقهى إلى ملاذ للعلاقات الغرامية العاطفية حيناً آخر. إنها ظاهرة جديدة لم تعرفها عمّان التي كانت تُشتهر بمقاهي المدينة القديمة (وسط البلد)، في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، التي اندثر الكثير منها، وتراجع حضور زبائن ذلك الجيل القديم، الذي لم يعرف من أماكن اللهو سوى المقهى ولعب "الشَدّة".
طبيعة المقاهي القديمة
اشتهرت مقاهي تلك الفترة بطابعٍ مزجَ بين الهمّ السياسيّ والاهتمام الثقافيّ، كما في مقاهٍ مثل "الجامعة العربية" و"الأردن" و"السنترال" و"العاصمة" و"بلاط الرشيد"، التي ارتادتها نخبة من المثقفين والسياسيين. مَن يقرأ روايات غالب هلسا، مثلاً، وهو الذي غادر الأردن منذ منتصف الخمسينيات، ولم يعد إليها إلا في الكفن أواخر العام 1989، يجد ذكراً وحضوراً لعدد من هذه المقاهي، وطبيعة روّادها، وتفاصيل العلاقات داخلها. آنذاك، كانت المقاهي منتديات سياسية وثقافية حيوية، ففي مقهى الجامعة العربية، مثلاً، الذي يواجه المسجد الحسينيّ أكبر مساجد وسط عمان في ذلك الوقت، على تقاطع بين شوارع عدة، كانت تتم اللقاءات، وتبدأ التظاهرات والمسيرات، ومن شرفات المقهى كانت تُلقى الخطابات.
احتضنت تلك المقاهي كتّاباً ومثقفين، وشهدت في الآن نفسه منتديات سياسية وثقافية، وأدت وظيفة اجتماعية تواصلية ثابتة كانت توزاي الحياة العامة في مدينة ذات إيقاع هادئ وبطيء، ويمكن القول إن تلك الوظيفة انحصرت بالرجال دون النساء والكبار دون الشباب.
المقاهي الجديدة
عمّان اليوم، بعيداً عن مركز المدينة القديمة، خصوصاً في الأحياء الثرية، تحوّلت إلى مكان للمقاهي الحديثة ذات الروح الشبابية، حيث يختلط الرجال مع النساء. لم يعد المقهى كما كان مكاناً للعب "الشدّة" أو انطلاق المسيرات والتظاهرات، فتلك الوظيفة الاجتماعية والسياسية قد انتهت في يومنا هذا، وتلك المقاهي اندثرت، وغاب حضور الجيل الذي عاصرها سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. اليوم، تنشأ المقاهي الجديدة بعيداً عن المركز، وغالباً في الأحياء الجديدة التي يقطنها الأثرياء، لتنأى عن مركز المدينة، مثل عبدون والصويفية وتلاع العلي، وربما في الأحياء القديمة القريبة من المركز، مثل جبل اللويبدة الذي يعدّ من أقدم جبال عمان، أو جبل الحسين، وهو أيضاً من بين الجبال المركزية في العاصمة.
ديكورات بجماليات الماضي
تُتّخذ البيوت القديمة أمكنة لهذه المقاهي، حيث الديكورات "العتيقة" عامل جذبٍ للجيل الجديد المبهور بجماليات الماضي، والجيل القديم الذي يحنّ إلى تلك الجماليّات التي يفتقدها في العصر الحالي. وبما أنني أحبّ الجلوس في أحد المقاهي، بحثتُ وجرّبت عدداً منها، فوجدت أن معظم المقاهي الجديدة ذات طابع "عائلي"، حيث يطغى الاختلاط والحضور النسويّ: رجل وامرأة، أو مجموعة فتيات، أو أمّ وبناتها. وتدور المشروبات جنباً إلى جنب مع الأراجيل أو السجائر، في صورة توحي بانفتاح واضح للمجتمع الأردني. فمثل هذا السلوك لم يكن ليحدث قبل عشر سنوات، ولم نكن نشهد مثيلاً له في المقاهي القديمة، باستثناء حضور خفيف لرجال ونساء من الأجانب.
ثمّة اختلاف يمكن ملاحظته بين مقاهي هذا البلد العربي والبلد الآخر، لجهة درجة الانفتاح، وحجم التقارب الذي يمكن أن يحدث بين رواد المقهى. أعتقد أن مقاهي المغرب، طنجة ومراكش، هي الأكثر انفتاحاً وتحرراً، ولكنها تتميّز عموماً بغياب ظاهرة "الشيشة" لأسباب لم أستطع معرفتها، إلى جانب مقاهي بيروت بالطبع. أعني بالانفتاح أن المقهى يشهد حضوراً ثقافياً وسياسياً، إلى جانب الحضور الاجتماعي والترفيهي، وهو ما لا تشهده كثيراً في مقاهي الأردن التي يغلب عليها الطابع الترفيهي، الأرجيلة ولعب الورق. ولا تعدم الاستخدام المُبالَغ فيه للأجهزة الإلكترونية التي تجعل رفاق/ رفيقات الطاولة ينشغل كل منهم بما بين يديه. كما أن من ضمن "أثاث" المقهى أجهزة التلفزيون الموزعة في أرجائه، وأجهزة بثّ الأغاني ذات الأذواق "الشبابية" الصاخبة غالباً.
تغييرات نوعية
هذه التغييرات النوعية في طبيعة المقهى، تشير إلى تحوّلات أساسية في المجتمع، حصلت أو هي في طريقها للحصول. لا أحد يستطيع أن يجزم إن كان الروّاد كلهم من الأردنيين، فربما كانت هناك نسبة من "الوافدين" العرب، وليس السيّاح الأجانب، لكن الأكيد أن النسبة الأكبر هي من الأردنيين، غالباً من فئة الشباب والطلبة، أو العاطلين من العمل، ذكوراً وإناثاً في فضاء واحد مختلط. أليس المقهى حياة مختلفة، ومجتمعاً مصغّراً مختلفاً داخل المجتمع الكبير، حتى لو كان هذا المجتمع "محافظاً"؟