مقاهي عمّان... تغييرات نوعية في مجتمع محافظ

08 سبتمبر 2014
طفرة في انتشار المقاهي الحديثة بالعاصمة الأردنية عمّان
+ الخط -

لأقلْ إنني من هوّاة ارتياد المقاهي، وأعتبر المقهى وجهاً أصيلاً وكاشفاً عن تبدلات المدينة، فهو ليس مجرد مكان لشرب العصائر الباردة والمشروبات الساخنة أو لعب الورق. المقهى "مجتمع" داخل المجتمع، مدينة داخل المدينة، لذلك، فأوّل ما أفعله عند دخول مدينة ما، هو أن أبحث بين مقاهيها عن أكثرها حيوية واختلافاً وخروجاً على المألوف.
حدث هذا في عمّان منذ مرحلة الشباب المبكر، ثم صار عادة متّبعة في كل مدينة أزورها. هناك مدن زرتها لم أجد فيها انتشاراً لظاهرة المقاهي، وثمة مدن لا تعرف حياة المقهى بمعناها العميق والحيويّ. ساكن الشام، مثلاً، لا يمكنه إلا أن يعتاد على مقاهيها، والتردد عليها في جولتين يوميّاً، جولة الصباح وجولة المساء، خصوصاً مقهى الروضة (شارع العابد) الذي يرتاده المثقفون والكتاب عادة، والعشاق والعاطلون عن العمل أيضاً. تستطيع أن تتعرف على مواعيد جلساتهم ولقاءاتهم، وتتعرف على الوجوه الدائمة، والأخرى العابرة. وهذا ما يحدث في مقاهي شارع الحمرا في بيروت (المودكا المغدور مثلاً)، ومقاهي طنجة ومراكُش والدار البيضاء والرباط ، ومقاهي القاهرة، حيث لكل مقهى روّاده الذين يعطونه شخصيته وهويته. فهذا مقهى صباحيّ، وذلك مسائي أو ليليّ، هذا للأصدقاء من الشعراء والكتاب، وذلك للصديقات، وذلك لمن هم خارج التصنيفات. 
تشهد مدينة عمّان، منذ سنوات، طفرة على صعيد انتشار المقاهي "الحديثة"، في الأحياء الراقية والوسطى، المقاهي الشبابية الصاخبة، كما المقاهي ذات الحضور الاجتماعي المتمثّل في العائلة حيناً، وفي العلاقات الغرامية العاطفية حيناً آخر. إنها ظاهرة جديدة لم تعرفها عمّان التي كانت تُشتهر بمقاهي المدينة القديمة (وسط البلد)، في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، التي اندثر الكثير منها، وتراجع حضور زبائن ذلك الجيل القديم، الذي لم يعرف من أماكن اللهو سوى المقهى ولعب "الشَدّة".

اشتهرت مقاهي تلك الفترة بطابعٍ مزجَ بين الهمّ السياسيّ والاهتمام الثقافيّ، كما في مقاهٍ مثل "الجامعة العربية" و"الأردن" و"السنترال" و"العاصمة" و"بلاط الرشيد"، التي ارتادتها نخبة من المثقفين والسياسيين. من يقرأ روايات غالب هلسا، مثلاً، وهو الذي غادر الأردن منذ منتصف الخمسينيات، ولم يعد إليها إلا في الكفن أواخر العام 1989، يجد ذكراً وحضوراً لعدد من هذه المقاهي، وطبيعة روّادها، وتفاصيل العلاقات داخلها. آنذاك، كانت المقاهي منتديات سياسية وثقافية حيوية، ففي مقهى الجامعة العربية، مثلاً، الذي يواجه المسجد الحسينيّ أكبر مساجد وسط عمان في ذلك الوقت، على تقاطع بين شوارع عدة، كانت تتم اللقاءات، وتبدأ المظاهرات والمسيرات، ومن شرفات المقهى كانت تُلقى الخطابات.
أمّا اليوم، وقد عدت إلى عمّان بعدما غبت عنها عِقداً من السنوات، فقد وجدت أن المقاهي الجديدة تنشأ بعيداً عن المركز، وغالباً في الأحياء الجديدة التي يقطنها الأثرياء، لتنأى عن مركز المدينة، مثل عبدون والصويفية وتلاع العلي، وربما في الأحياء القديمة القريبة من المركز، مثل جبل اللويبدة الذي يعدّ من أقدم جبال عمان، أو جبل الحسين، وهو أيضاً من بين الجبال المركزية في العاصمة.
ثمة ظاهرة تتمثل في اتخاذ البيوت القديمة أمكنة لهذه المقاهي، حيث الديكورات "العتيقة" مدعاة لجذب الجيل الجديد المبهور بجماليات الماضي، والجيل القديم الذي يحنّ إلى تلك الجماليّات التي يفتقدها العصر الحالي. وبما أنني أحبّ الجلوس في أحد المقاهي، بحثت وجرّبت عدداً منها، فوجدت أن غالبية المقاهي الجديدة ذات طابع "عائلي"، حيث يطغى الاختلاط والحضور النسويّ رجل وامرأة، أو مجموعة فتيات، أو أمّ وبناتها. وتدور المشروبات جنبا إلى جنب مع الأراجيل أو السجائر، في صورة توحي بانفتاح واضح للمجتمع الأردني. فمثل هذا السلوك لم يكن ليحدث قبل عشر سنوات، ولم نكن نشهد مثيلاً له في المقاهي القديمة، باستثناء حضور خفيف لرجال ونساء من الأجانب.
ثمة اختلاف يمكن ملاحظته بين مقاهي هذا البلد العربي والبلد الآخر، لجهة درجة الانفتاح، وحجم التقارب الذي يمكن أن يحدث بين رواد المقهى. أعتقد أن مقاهي المغرب، طنجة ومراكش، هي الأكثر انفتاحا وتحرراً، ولكنها تتميّز عموماً بغياب ظاهرة "الشيشة" لأسباب لم أستطع معرفتها، إلى جانب مقاهي بيروت بالطبع. أعني بالانفتاح أن المقهى يشهد حضوراً ثقافياً وسياسياً، إلى جانب الحضور الاجتماعي والترفيهي، وهو ما لا تشهده كثيراً في مقاهي الأردن التي يغلب عليها الطابع الترفيهي، الأرجيلة ولعب الورق. ولا تعدم الاستخدام المبالغ فيه للأجهزة الإلكترونية التي تجعل رفاق/ رفيقات الطاولة ينشغل كل منهم بما بين يديه. كما أن من ضمن "أثاث" المقهى أجهزة التلفزيون الموزعة في أرجائه، وأجهزة بثّ الأغاني ذات الأذواق "الشبابية" الصاخبة غالباً.
هذه التغييرات النوعية في طبيعة المقهى، تشير إلى تحوّلات أساسية في المجتمع، حصلت أو هي في طريقها للحصول. لا أحد يستطيع أن يجزم إن كان الروّاد من الأردنيين، فربما كانت هناك نسبة ممن نسميهم "الوافدين" من العرب، وليس السيّاح الأجانب طبعاً، بل من السوريين والعراقيين وحتى الليبيين واليمنيين، لكن الأكيد أن النسبة الأكبر هم من الأردنيين، وغالبا من فئة الشباب والطلبة، أو العاطلين عن العمل، ذكوراً وإناثاً في فضاء واحد مختلط.
أليس المقهى حياة مختلفة، ومجتمعاً مصغراً مختلفا داخل المجتمع الكبير، حتى لو كان هذا المجتمع "محافظاً".  

 

المساهمون