مفكّرة المترجم: مع محمد الفولي

30 اغسطس 2020
(محمد الفولي)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "ثمّة مؤلفون كثيرون رائعون يكتبون بالإسبانية ولم تترجَم أعمالهم إلى لغتنا بعد. القارئ العربي يستحقّ ألّا تظل معرفته بهذا الأدب مرتبطة بثلاثة أو أربعة أسماء فقط"، يقول المترجم المصري.


كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟

-  اللغة الإسبانية كانت الباب الذي فتح لي آفاقًا لم أتخيّلها في الترجمة. وحدها الصدفة جعلتني أدرسها، إذ إنّ رغبتي المبدئية كانت التخصُّص في اللغة الإنكليزية، لكن التنسيق الداخلي لكلية الآداب في جامعة القاهرة منعني، فقرّرتُ سحب ملفّي وتحويله إلى جامعة حلوان بعد تأكُّدي من استيفاء شروط الالتحاق بقسم اللغة الإنكليزية هناك. فوجئت لاحقًا بعدم إدراج اسمي في قائمة المقبولين. أخبروني بعد نقاش طويل في شؤون الطلبة أنّ الشروط الأصلية للقبول لا تنطبق عليّ لأنني من "المُحوّلين" ولست من أبناء الجامعة، فسحبتُ ملفي وعدت إلى جامعة القاهرة من جديد. إنها عودة الابن الضال!

سألتُ بملل شديد عن أقسام اللغات التي تتبقّى فيها أماكن شاغرة وبعد مراجعة الخيارات، طلبت إدراجي في قسم اللغة الإسبانية. أتذكّر أن اسمي كُتب بالقلم الرصاص في نهاية الكشف المطبوع. منذ أسبوعي الأوّل في الجامعة أُغرمت بالإسبانية وشعرتُ أنها ستكون بوّابتي إلى عالم الترجمة، خاصّة أنني كنت أهوى أدب أميركا اللاتينية. مرّت سنوات الدراسة بسرعة لم أتخيّلها وأنهيتها ثانيًا على دفعتي. بعد أداء الخدمة العسكرية، بدأت أعمل مترجمًا صحافيًا في وكالة الأنباء الإسبانية وحينما زالت بعض العقبات، بدأت مشواري مع الترجمة الأدبية.


ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟

- آخر الترجمات التي نشرتُها هي رواية "فالكو" للكاتب الإسباني أرتورو بيريث ريبيرتي. وخلال الأسابيع المقبلة ستصدر ترجمتي لرواية "حفل في الوكر" للكاتب المكسيكي خوان بابلو بيالوبوس. حاليًا أعمل على ترجمة عمل ضخم وعظيم للكاتب الإسباني أنطونيو مونيوث مولينا.


ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟ 

- لنتحدّث من البداية. أوّلًا، ضعف التأهيل الجامعي، خاصّةً في مجال الترجمة الأدبية. فكل ما قدّمَته لي الجامعة في هذا الشأن مجرّد قشور. ثانيًا، ندرة الدورات التأهيلية في هذا المجال أثناء وبعد الدراسة الجامعية. ثالثًا: قد تنجح في صقل موهبتك بجهودك الذاتية، لكن دخول مجال النشر صعب: إن لم تكن تعرف فلانًا الذي سيحدّث فلانًا عنك والذي سيوصي بدوره باسمك لناشر قد يتواصل معك أو يتجاهلك، فربما ينال اليأس منك فتترك الأمر برمّته. قد تصل في نهاية المطاف إلى هدفك سواء بجهودك أو بهذه التوصيات التي ستفتح لك بعض الأبواب، لكن هل تنتهي المشاكل هنا؟ لا! ثمّة أمور أُخرى ستجدها مثل ضعف المقابل المادي أحيانًا، أو التقليل من اختياراتك في البدايات. لنقل إنك قد تخطّيت كل هذه المراحل، ستجد مشكلة التوزيع في العالم العربي التي لن تتّسع دائرة قُرّائك بسببها، وهي مسألة لا ترتبط بالترجمة بشكل خاص، وإنما بسوق النشر عمومًا.


هناك قول إن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟

- لا شك في أن دور المحرّر مهمّ. لقد كنت محظوظًا، خاصة في أعمالي مع دار "مسعى" بوجود محرّرين ساعدوني كثيرًا في تلافي، لن أقول الأخطاء التي كانت موجودة في ترجمتي الأولى، وإنما بعض أوجه القصور البسيطة المتعلّقة بالتدقيق؛ تلك التي تلتقطها الأعين المتمرّسة فقط. الحقيقة أنّني لا أخجل من قول أمور مثل هذه، لأنّ الترجمة كأي عمل آخر قائم على التطوُّر. لذا حينما أنظر إلى البدايات وبعدها إلى ما حقّقتُه لاحقًا أشعر بالفخر لأنّ هذا يعني أنني أسير على الطريق الصحيح. أقبل بتدخُّل المحرّر أحيانًا في مسألتَي التدقيق أو ترتيب بعض الجمل إن اقتنعت بصواب رأيه، لكن مسألة المعنى لا أقبل أيّ تدخل فيها. ببساطة، أنا من اطّلع على النص بلغته الأصلية؛ أنا من يفهم ما يقوله الكاتب بلغته، أنا حلقة الوصل بينه وبين القارئ، وليس المحرّر.


كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟

- لقد صدرت لي عشرة كتب مترجَمة حتى الآن. ثمانية منها كانت من اختياراتي والاثنان المتبقّيان كانا من ترشيحات من الناشرين. أنا سعيد باختياراتي لأنها قدّمَت أسماء جديدة للقارئ العربي وطرحت موضوعات متنوّعة. ممتنّ كذلك لأنها نالت استحسانه في أغلب الأحوال.


هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟

- لا أتوقّف عند أي اعتبارات سياسية. العمل الأدبي الجيّد عمل أدبي جيّد. لا يجب التوقّف عند أي اعتبارات أُخرى. بعض ترجماتي مثل "أشدّ ألم"، و"فالكو" و"حفل في الوكر" تشهد على هذا.


كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟

- تواصلتُ مباشرةً مع بعض المؤلّفين الذين ترجمت أعمالهم مثل البيروفي سانتياغو رونكاغليولو، والأرجنتيني لوثيانو بيرنيكي. لكنّ الحقيقة أن أفضل علاقة جمعتني بكاتب لم أتواصل فيها معه شخصيًا، بل مع روايته التي تماهيتُ معها بشكل لم أتخيّله. حدث هذا إلى درجة دفعتني للشعور أنّني كنتُ انعكاسًا له ولكلّ أحاسيسه في مرآة الترجمة. أقصد هنا الكاتب الإسباني راي لوريغا وترجمتي لروايته "استسلام" التي أعتبرها أفضل ترجماتي حتى الآن.


كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟

- الكاتب كاتب والمترجم مترجم.. قد تبدو عبارة بسيطة، ربما مبتذلة لكن هذه هي الحقيقة. أنا ككاتب ومترجم أعمل دائمًا على الفصل بين الأمرين. مهمتي كمترجم هي أن أنقل النص، روحه ومعانيه بنفس أسلوب الكاتب ونواياه قدر الإمكان؛ وليس أن أتدخّل فيه. إن كان النص بسيطًا بالإسبانية فليكن بسيطًا بالعربية. إن كان معقّدًا بالإسبانية فليكن معقّدًا باللغة العربية. أضع كل هذه الأمور في الحسبان أثناء الترجمة. يتعلّق عمل كلّ من الكاتب والمترجم بالإبداع؛ الفارق أنّ الكاتب يخلق، أمّا المترجم فيحاكي إبداعًا خلقه كيان آخر: المؤلّف.


كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟

- أعتقد أن جوائز الترجمة العربية مهمّة لأنها تشجّع العاملين في المجال على مواصلة الإنتاج، خاصة في ظل الظروف التي ذكرتُها في إجابتي عن السؤال الثالث. على الصعيد الشخصي، لم أشارك في أي مسابقة حتى الآن بأي من أعمالي المنشورة. الجوائز جيّدة، لكنها ليست هاجسًا.


الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟

- قد تبدو إجابتي غريبة نوعًا ما، لكن أفضّل أن تظل الترجمة عربيًا مشاريع أفراد، على الأقل تلك المرتبطة باللغة الإسبانية. لا أظن أن وجود "سلطة أدبية" أو "سلطة معارفية" تُحدّد الأعمال التي يجب ترجمتها سيصبُّ في صالح الترجمة. ثمّة أسباب عديدة لرأيي هذا، أذكر منها على سبيل المثال: الروتين، وشبكات العلاقات وتحكُّم الأهواء الشخصية في هذه المؤسّسات. التنوع الموجود حاليًا في مشاريع الأفراد المرتبطين بالترجمة عن الإسبانية مُبهر. لدينا أسماء عديدة. كلُّ اسم منها له اختياراته المتنوعة: طه زيادة، أحمد عبد اللطيف، عبد السلام باشا، مارك جمال وأحمد حسان، على سبيل المثال. أنا شخصيًا لديَّ اختياراتي. في المستقبل القريب سيظهر اسمان آخران: محمد مهدي وأحمد محسن وهما مترجمان شابان رائعان عن الإسبانية ستصدُر باكورة أعمالهما قريبًا. كلُّ هذا التنوع سيصب في صالح القارئ والترجمة عن الإسبانية وأرى أن مردوده سيكون أفضل من أي مشروع مؤسّسي.


ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟

- المبادئ بسيطة شكلًا: نقل المعنى المقصود والصحيح في تركيبة لغوية سليمة مع الحفاظ على روح النص الأصلي وأسلوب مؤلّفه. بالنسبة إلى العادات، فالموسيقي هي رفيقي الدائم أثناء ترجمة أي كتاب.


كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟

- لم أندم على ترجمة أي كتاب. ترجماتي هي أبنائي. لا يُمكن لأب أن يكره أبناءه.


ما الذي تتمنّاه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟

- أتمنّى أن يحصل المترجم على التقدير الذي يستحقّه على كل الأصعدة. ألّا يتم تهميشه. الترجمة عملية ممتعة، لكنها في نفس الوقت مُرهقة. حلمي الشخصي كمترجم يتعلّق بمشروعي.. إن جاز أن نطلق تعبير مشروع على ما أفعله. أتمنّى مواصلة تقديم أعمال وأسماء تُنقل إلى العربية للمرّة الأولى. ثمّة مؤلّفون كثيرون رائعون يكتبون بالإسبانية ولم تترجَم أعمالهم إلى لغتنا بعد. القارئ العربي يستحقّ الاطلاع عليهم، وألّا تظل معرفته بهذا الأدب مرتبطة بثلاثة أو أربعة أسماء فقط. هذا مشروعي. هذا حُلمي.


بطاقة

قاص ومترجم مصري عن الإسبانية من مواليد 1987. صدرت أولى ترجماته؛ "الشرق يبدأ في القاهرة" لـ إكتور آباد فاسيولينسي في 2018. ترجم أعمالًا متنوّعة لعدّة مؤلّفين من إسبانيا وأميركا اللاتينية أبرزها: "أخفّ من الهواء" لـ فيديريكو جانمير (2018)، و"استسلام" لـ راي لوريغا (2019)، و"فالكو" لـ أرتورو بيريث ريبيرتي (2020)، كما ترجم مختارات من الأدب الأرجنتيني حول كرة القدم بعنوان "حكاية عامل غرف".

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون