مفاوضاتنا والاتفاق النووي

26 يوليو 2015
+ الخط -
أكثر من عشرين عاماً، ومفاوضاتنا مع كيان الاحتلال الإسرائيلي تراوح في الأمكنة المعقّدة التي بدأنا منها، ولم ننته فيها إلى أي تقدم، فكل قضايا المفاوضات الست لم تشهد ولو القليل من بصيص الضوء على تقدمها، بل على العكس، شهدت كلها مزيداً من التعقيدات والتلبك في أمعاء المفاوضين، بل وفي جوهر التسوية نفسها، من حيث قابليتها للحلحلة، في ظل هذا الصلف والعنجهية الاستيطانية، والاستعلاء الكولونيالي الاحتلالي، والدعم الإمبريالي، وغيره من دعم اللاأدريين وغير المبالين، والخونة الموضوعيين لقضايا شعوبهم، أولئك الذين حوّلوا ويحولون نهارات أيامنا إلى ظلمات من الوحشة والجهالة والقبور المعتمة، كما حوّلوا ثورات شعوبنا إلى نكوص دائم من التخلف والتضاد الدائم مع الحداثة والتنوير، ومعاصرة التقدم الفكري والعمراني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وها هم يمضون، وبقوة دفع ذاتي وموضوعي، إلى تهديم كل شيء؛ من العمران والبنيان إلى مجتمع الإنسان. 
وفيما كانت مفاوضاتنا تنتكس، ولا تجد لها مسارب ممكنة، لتحقيق تسوية منتظرة؛ منذ آلاف مؤلفة من الشهداء والجرحى والمشردين، بحلم عودة اللاجئين من ديارهم إلى وطنهم السليب، كانت مفاوضات الاتفاق النووي تحرز تقدما ملحوظا، وإن لم يكن الاتفاق نهائيا بعد، أو لم تجر المصادقة عليه، في وقت يحاول رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، نفسه، وائتلافه اليميني المتطرف، إفشال الاتفاق، لما يشكله، من وجهة نظرهم، من انطوائه على خطرين مركزيين: الأول أن الاتفاق يسمح لإيران بالتسلح بسلاح نووي، سواء بعد الالتزام بالاتفاق، خلال 10 -15 عاما، أو بخرقه قبل ذلك الموعد. الثاني، يكمن في تدفق مليارات الدولارات إلى ما وصف بأنه "ماكينة الإرهاب والحرب الإيرانية" التي تهدد إسرائيل والعالم كله.
مثل هذه "العقلية الإسبرطية" الإسرائيلية التي يفاوض نتنياهو وفق قواعد ومعايير أهوائها ورغباتها، لا يمكن أن توصل إلى أي مكان، يمكن توصيفه بكونه (التسوية) التي يحلم بها الفلسطينيون، أو أي طرف عربي، فقد انكشفت اتفاقيات أوسلو عن كونها الهوة السحيقة، أو الثقب الأسود الذي أظهر ملامح مؤكدة، لا تشي بما آلت، أو ما كان يمكن أن تؤول إليه؛ من تلك الدولة الموهومة أو المزعومة، التي حلمت بإقامتها السلطة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، وإذ بها تتقلص إلى مجرد حكم ذاتي، أضيق حتى من الحكم الذاتي الذي حمل يوما عنوان "تقاسم وظيفي"، في ظل سلطة "روابط القرى" وسيطرتها.
أما اليوم ففي رؤى اليمين العنصري الصهيوني المتطرف، لا تقبع سوى تصورات "التنسيق الأمني"، وما يسمى خطط "السلام الاقتصادي"؛ عنواناً لاستمرار مهمة السلطة الفلسطينية في حمل راية الدولة الموهومة، انعكاساً شرطياً لهيمنة الاحتلال على كل مفاصل الحياة الفلسطينية السياسية والاقتصادية في الداخل.
وهذا مآل طريق أوسلو، وما جرى المراكمة عليه من سلبيات، والانتقاص منه من إيجابيات، أو ما يفترض أنه كان يمكن حسبانه من الإيجابيات، منذ أكثر من عشرين عاما، تخللتها انتفاضات شعبية، جرى إفشالها وإفشال أهدافها، ولم يبق في ساحات التفاوض سوى ما جرى تجريبه وتكراره عشرات المرات، من دون أن يكون هناك أي أفق، يمكن الرهان عليه، لا سيما وأن الذين يقودون المفاوضات، ويجربون المجرب، التفاوضي وغير التفاوضي، هم أنفسهم من بقوا ليرثوا التركة القيادية الفلسطينية، وليقودوها إلى كارثة تكريس النظام السياسي، على علّاته وانقساماته واختلافاته، وسط عديد من ملامح استبداداته المختلفة، المتماثلة وطبائع استبداد النظام السياسي العربي، بموروثاته وجيناته التي لا تحمل غير هذا الشكل الهجين، من ثقافة الترسبات العميقة وأدلوجاتها السلطوية.

وإذا ما بقي الحال الفلسطيني يغزل على المنوال السلطوي نفسه، غير التحرري، فأي مآل يمكن أن يصل إليه المشروع الوطني التحرري؛ في ظل ما نشهده مكرراً من مفاوضات عقيمة، لم تعد تطرح غير العمى السياسي، والقهر الاجتماعي والاقتصادي، لكامل قطاعات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات. لا سيما حين يجري التلاعب بحق العودة والحقوق السياسية والسيادية الفلسطينية، وكأن لا وطن لنا سليب، ولا شعب تشرد وتهجر إلى كل أصقاع الدنيا، ولا معاناة يومية وآلام وتضحيات؛ وهذا كله يتطلب ما يتخالف ويختلف، عما هو موجود، من شخوص وبرامج، وخطط لا يجري الالتزام بها من طرفي النظام السياسي الفلسطيني.
وفي الجولان السوري المحتل، لا يبدو أن مصيره سوف يكون مختلفاً عن الضفة الغربية، كما تتراءى وتتبدى في رؤى اليمين العنصري الصهيوني المتطرف وتصوراته، ولعل ما كتبه تسفي هاوزر، سكرتير الحكومة الإسرائيلية في السنوات 2009 – 2013، في صحيفة هآرتس، أخيراً، هو خير ما يفصح عن الرؤية الإسرائيلية لمستقبل الجولان المحتل، على الرغم من أنه يتناول الموضوع من وجهة نظر نقدية، فحواها عدم استغلال المستوى السياسي الإسرائيلي ما سماها "فرصة تاريخية" في العمل على الحصول على اعتراف دولي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، بادعاء أنها عامل استقرار إقليمي، لا توفره البدائل الأخرى.
ولأن سورية لن تعود كما كانت، وأن مفعول التسويات التي رسمت الحدود والدول في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى قد انتهى، وأن المنطقة ستدخل في حالة من عدم الاستقرار سنوات طويلة، يدعو هاوزر إلى أن تصوغ إسرائيل، من جديد، مصالحها الجيو – استراتيجية، وليس فقط على الجبهة السورية، من خلال النظر بعيداً إلى الغد، وليس إلى الأمس، حيث إن هذه "الفرصة الفريدة" لتغيير المكانة الدولية لهضبة الجولان، نشأت بفضل تضافر عمليات تاريخية ونضوجها في النقطة الزمنية الحالية، وعلى إسرائيل، وهي قادرة، أن تفصل المباحثات مع المجتمع الدولي بشأن هضبة الجولان، عن المباحثات بشأن الضفة الغربية، على قاعدة أنه، خلافا للضفة الغربية، فإن المركب الجوهري المتمثل في السيطرة على شعب آخر غير موجود في الجولان، حيث "22 ألف درزي، يسكنون، لحسن حظهم، في الجانب الإسرائيلي من الجولان، مستحقون للمواطنة الإسرائيلية الكاملة، ولا يشكلون مشكلة ديمغرافية، لأنه يوجد في الجولان غالبية يهودية تصل إلى 25 ألفا. وعلاوة على ذلك، لا يوجد بديل للسيطرة الإسرائيلية على الجولان، حتى على المدى البعيد".
ولهذا، يدعو هاوزر إلى تبني ما سماها "رؤية تاريخية بنغوريونية"، وتجاهل الفرصة الحقيقية الأولى منذ نصف قرن في إدارة حوار بناء مع المجتمع الدولي، بهدف تغيير الحدود في الشرق الأوسط، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، جزءاً من المصلحة العالمية في الاستقرار الإقليمي.
هكذا يفكر الإسرائيليون حقيقة، فلا مجال لجدل التفاوض أو التباحث، حول أمور من المفترض أنها مشتركة؛ مع أطراف تتشارك جدل الصراع، لا إدارته فقط. وهذا أمر كان بالفعل ديدن الذين قادوا التفاوض حول الاتفاق النووي، وهم ينطلقون من إدارة الصراع حول الملف النووي الإيراني، إلى محاولة إيجاد حلول تفاوضية، كان الاتفاق النووي الأول، والتالي الذي تم التوصل إليه أخيراً، علامة على سلوك طريق الوصول إلى اتفاق، بينما يسلك التفاوض على الجبهة الفلسطينية طريقا أثبتت خبرة وتجارب التفاوض المراوغ إسرائيليا أنه لن يقود إلى أي مكان خارج استمرار الهيمنة الإسرائيلية الكولونيالية والاحتلالية المؤكدة. أما "حل الدولتين"، فهو ليس أكثر من حلم ليلة صيف في أوسلو، وضع الاستيطان ومصادرة الأراضي وسياسة الجدران العازلة، وتغول اليمين الاستيطاني والديني المتطرف، بمشاركته الفاعلة في الائتلاف الحكومي وقراراته العنصرية، حدا لحلم عمّر طويلا، بفضل الأوهام والرؤى السلطوية لأصحابها.

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.