مغلق/ مفتوح

01 سبتمبر 2015
+ الخط -
أشياء قليلة حافظت على وجودها بيننا، من بين تلك التي ألفناها خلال سني أعمارنا القصيرة، وفقدت وجودها بفضل التقدّم، أو بفعل التقادم.
بعضها تسلّل إلى الحنين، واختفى فيه.
بعضها حافظ على وجوده، لأن فقدانه المهام الكبيرة التي كان يؤدّيها، في وقت ما، لم يجعله عاطلًا عن العمل كليًا.
عليك أن تتنبه إلى ذلك، فثمة ما يمثّل وجوده المجرد بيننا معنى أو قيمة، لا تفقد وهجها وإن فقدت أهميتها.
أعرف شابًا سوريًا يحتفظ بلوحة لشجرة عائلته، مثبّتة فوق سرير نومه، على الرغم من أنه فقد جميع أفرادها. وأعرف أبًا فقد وظيفته وعافيته، وغمرته الوساوس، ودهمه الزهايمر، ولكن أسرته وضعته في إطار خشبي وعلّقته على الجدار.
أعرف آخر لا تعني له الحياة شيئًا، لكنه يواصل استخدام قدميه مثل بدالتي دراجة هوائية.

*

هناك أشياء أقل أهمية، تبدو هامشية إلى درجة أنها قد لا تثير انتباهًا. ومع ذلك فهي تبرهن، طوال الوقت، على قدرتها على الاستمرار في هذا العالم، كأنّها أحد سكانه الأصليين.
أشياء ملقاة هنا وهناك، تستمدّ قوّتها من بساطة الرسالة التي تحملها.
"موسى" يقف ست ساعات يوميًا، أمام بوابة أوتيل، لا يفعل شيئًا سوى التقاط حقائب النزلاء من مركبات الأجرة، وحملها الى غرفهم، بعد أن يسحرهم بابتسامته العريضة.
مرّ نحو ثلاثين عامًا، وهو لا يزال يؤدي مهمته البسيطة هذه. وخلال عقوده الثلاثة، تعاقب على العمل في الأوتيل زملاء له، موظفون ومديرون، لا حصر لهم.
رآهم في يومهم الوظيفي الأوّل، وصافحهم في يومهم الأخير، مودعًا، من دون أن يتخلّى عن ابتسامته تلك.
ولا داعي هنا للحديث عن تعاقب النزلاء على الغرف.


اقرأ أيضاً: المفردة الأكثر غباء

*

من بين الأشياء التي حافظت على وجودها في عالمنا، وثبّتت أقدامها على سطح هذا الكوكب اللاهث، الذي لا يني يتلف الملفات والأوراق القديمة، بالجملة، مستعيضًا عنها بشرائح ورقائق إلكترونية، أتوقّف أمام لوحة صغيرة، مثبتة على باب زجاجي من الداخل، لتكون مواجهة لي، أنا، زائر المحل.
تقول اللوحة كلمة واحدة فقط، لا سبيل إلى تكذيبها أو مجادلتها:
- مغلق.
أوليها ظهري وأنصرف.
أعرف أن الكلمة تحمل نقيضها على ظهرها. أتخيل الكلمة الأخرى، العزيزة:
- مفتوح.
لكنني لا أطيل التفكير فيها، فما من جدوى يمكن أن تتحقّق لي من وراء ذلك.
أعثر على اللوحة ذاتها في أماكن كثيرة، في ذاكرتي الحارّة، محال تجارية، صيدليات، مطاعم، مكاتب عقارية... الخ. وأتذكر، كأنما في حيوات سابقة، عدد المرات التي صادفتها فيها، وهي تؤدّي مهمتها هذه بالحيوية ذاتها.

*

أصحاب هذا النوع من المهام، أو- لأقل - "الرسالات"، لا يختبرون أي نوع من القلق وهم ينظرون إلى خطوات الزمن العريضة تمرّ من أمامهم. لا ترهبهم التكنولوجيا، ولا تؤرقهم أسنان الحداثة الحادة وأظافرها الصقيلة، لأنهم يدركون أنهم محميون بهامشيتهم.
إنهم تافهون، وغير مرئيين، وأصلاء، إلى درجة أنهم خالدون.

*

أقول لنفسي:
لو أنني أستطيع، مثلك أيتها اللوحة الصغيرة، أن أضع حدًا لوجودي بكلمة واحدة، لا تحتمل التكذيب، أو المجادلة.
كلمة أختبىء فيها، مطمئنًا، فيما أحمل نقيضها على ظهري.
سوف يبدو الأمر كما لو أن لي شمسًا صغيرة، لا يزيد حجمها على حجم لمبة التيبل لامب، تضيء وجودي، ما شئت من ساعات النهار، فإذا أردت أن أنقلب إلى نفسي، قلبتها فقط الى الجانب الآخر، لتكون مواجهة لك أنت، أيها القارىء.
المساهمون