معضلة اليوم التالي للثورة في مصر

26 أكتوبر 2016
+ الخط -
لم تتوقف الدعوات في مصر إلى أيام ثورية عديدة منذ الانقلاب العسكري، وإنْ تمرّ بموجات مد وجزر، فاستمرت المظاهرات المطالبة بعودة الشرعية، وعلى رأسها الرئيس المنتخب والمختطف، أكثر من ثلاث سنوات، وكانت ذروتها في عامي 2013 و2014، ثم خفتت وتراجعت بعض الشيء، بسبب عامل القهر وتكميم الأفواه والقبضة الأمنية التي لم ينج منها صاحب رأي أو انتماء سياسي، وكان انشغال الإخوان المسلمين، أكبر القوى المعارضة، بأزماتها الداخلية، والتي بدأت عام 2015، عاملاً أساسياً في هذا التراجع. وقد واكب هذه الموجات الثورية ظهور أزماتٍ اقتصاديةٍ أثقلت كاهل الفقراء، منها رفع الدعم عن سلع وخدمات كثيرة، وانهيار العملة بصورة غير مسبوقة، حتى توقع كثيرون قيام ثورةٍ غير مؤدلجة، تنبع من قاع المجتمع، يسميها بعضهم ثورة الجياع، هؤلاء الذين وجدوا أن ما وعدهم به العسكر من رخاء تبخّر أمام طوابير الحصول على معونات الجيش والشرطة والمخابرات، وأن ارتشاف كوبٍ من الشاي محلّى بالسكر أصبح سلعة الأغنياء، وأصبحت حيازة عشرة كيلوات من السكر جريمةً تستوجب المساءلة ودفع الغرامة.
لم يعد رحيل النظام كافياً لتنجو مصر من كوارث، أوقعها فيها فيلسوف الفلاسفة، كما أدعى نفسه عبد الفتاح السيسي الذي انتقل بمصر من فشلٍ محتملٍ إلى فشلٍ مركّب، ومن إرهابٍ محتمل إلى إرهابٍ ينجح في كل مواجهةٍ مسلحةٍ مع النظام، فلا تجد منظومة العسكر الفاشلة في سيناء إلا توجيه رصاص بنادقها للمدنيين في القاهرة، لعلها تجد تغطيةً مناسبةً على الانشغال بالسياسة والمشروعات الاقتصادية الخاصة، وضعف الاستعدادات والجاهزية، والتي تظهر جليةً في الجنائز اليومية في ربوع مصر للجنود الذين يلقى بهم في سيناء بلا عقيدة قتالية، ولا تدريب كاف.
وقد جاءت دعوات التظاهر في يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل في ميادين مصر
احتجاجاً على ارتفاع الأسعار وسوء الأحوال الاقتصادية، موجة ثورية جديدة، تتميز عن سابقاتها بحالة من الهلع والصخب الإعلامي الذي يصاحبه التهديد والوعيد لمن تسوّل له نفسه النزول في مظاهراتٍ للتعبير عن احتجاجاتٍ سلميةٍ، وأصبحت مقولة (الرئيس اللي ما يعجبناش الميدان موجود) من تراث ثورة يناير المندثر، حتى أن اللواء وزير التموين أدلى بتصريحاتٍ، في مؤتمر صحفي يوم 19 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، لطمأنة المواطنين على المخزون الاستراتيجي من السلع، بعدما شهد المجتمع نقصاً حاداً وارتفاعاً في أسعار السكر، قال فيه نصاً بلغة الجنرال (لن نسمح بتكرار 28 يناير مرة أخرى)، ذلك اليوم الذي انتفض فيه الشعب، وانهارت فيه الشرطة، وكان من أسباب نجاح الثورة آنذاك. ثم أردف (استحملوا شوية...لازم نقلل استهلاكنا، ونحافظ على الاستقرار، بدل ما نقعد في معسكرات، ونبقى لاجئين) فهو إذاً التهديد بالقبضة الحديدية، ثم التذكير بالقول المأثور (أحسن من سورية والعراق).
لا يتوقع أكثر المتفائلين أن تكون هذه الموجه الثورية المرتقبة، مع أهميتها، القاسمة لحكم العسكر، لوجود معضلةٍ لم تتمكّن كل القوى الثورية من حلها، بل لم ترتق هذه القوى، لترى حجم الجرم الذي فعله بعضها بمصر وأهلها، عندما وافق أن يكون أداةً في يد العسكر لوأد الديمقراطية الوليدة، سواء كان يعلم كما كتب أحدهم (نعم كنا نعلم)، أو بحسن نيةٍ، ظهر ضررها فيما بعد. وكان من الواجب أن يعتذروا للشعب اعتذاراً فعلياً، بتغليب مصلحته وإرادته على مصالحهم الضيقة وتخوفاتهم المصطنعة. تلك المعضلة تكمن في اليوم التالي لنجاح الثورة، وإزاحة العسكر عن الحكم، ولو شكلياً، في سقوط السيسي، واختفائه القسري أو الاختياري عن المشهد.
عدم وجود رؤية متفق عليها لذلك اليوم التالي، والذي يصدر فيه بيان إزاحة السيسي وهروبه، أو القبض عليه، يجعل من الصعوبة على حلفاء العسكر، الغرب وأميركا وبعض دول الخليج، وربما الحليف الروسي الجديد، رفع الدعم المادي والغطاء السياسي عن النظام العسكري، بل يتوقع حمايته ودعمه، كما يحدث مع بشار الأسد في سورية، كما أنه يفتح مجالاً لخدعةٍ جديدةٍ للعسكر، يحكم بها من خلال عرائس المسرح المتمثلة في القضاء والشرطة والقوات المسلحة والإعلام، والنخبة التي ترتبط مصالحها مباشرةً معهم، ونموذج التعامل مع ثورة يناير خير شاهد على ذلك.
إذا كان سقوط السيسي مسألة وقت، فإن الوقت قد يطول، طالما ظل بعضهم لا يرى أن عودة
الرئيس محمد مرسي أول خطوات ما بعد الثورة، للتأكيد على مبدأ رفض الانقلابات، وطالما ظل بعض الإسلاميين يرون أن تصدّرهم المشهد السياسي بعد رحيل العسكر حقٌّ وضرورة لمستقبل الأمة، فعلى الجميع أن يتفقوا أن عودة الرئيس مرسي إلى الحكم واجبٌ على كل مصري، وعلى "الإخوان المسلمين" أن يعلنوا صراحةً تراجعهم عن تصدر المشهد، بعد سقوط حكم العسكر، وهذا الإعلان يلزمهم وحدهم، ولا ينسحب على الرئيس الذي انتخبه المصريون.
وسيناريوهات اليوم التالي كثيرة لدى العسكر، بدأًت من ظهور البديل العسكري عبر انقلاب جديد، أو بالحكم من وراء الستار بنموذجٍ شكليٍّ للتغيير، مثل فترة المستشار عدلي منصور، وغيرها من البدائل كثيرة تصب في استكمال مسيرة هدم مقدرات مصر، والمستمرة منذ خمسينيات القرن الماضي، إذا لم يصطف الثوار، ليحدّدوا موقفهم من هذا اليوم صراحةً، من دون تأجيل أو مناورةٍ سياسية ليس وقتها، ويعملوا على قيادة الشعب الهارب من جحيم العسكر، فإنهم يعطون قبلة الحياة للحكم العسكري الذي مات إكلينيكياً، ويبقى أن ننزع عنه أجهزة التنفس الصناعية، ولن يتم ذلك إلا بعودة المسار الديمقراطي، كما كان قبل 30 يونيو/ حزيران 2013، وليتجنب الجميع سينايو الفوضى الذي يهدّد به الجنرال.
دلالات