يشعر زائر التبانة بدرجة القلق السائد بين جنود الجيش اللبناني المنتشرين في "المربع الأمني" التابع لأسامة منصور وشادي المولوي (ينتميان لجبهة النصرة)، إذ من الواضح أن الطرفين "لا يحبان" بعضهما بعضاً. العسكر يرى أن كل أبناء التبانة "إرهابيون" قاتلوا إلى جانب "النصرة" وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). شعور يتفاقم بنظرات أبناء المنطقة للعسكريين، فهؤلاء لا يرون في الجيش إلا "امتداداً لحزب الله" كما يُردد الكثيرون منهم.
بعد أيام قليلة ستعود الحياة إلى طبيعتها، رغم أنها لم تكن طبيعية منذ سنوات بسبب الفقر والإهمال والاشتباكات المتنقلة. سيعود أولاد التبانة إليها، وأكثر من نصف هؤلاء باتوا خارج المدارس، إذ تصل نسبة التسرب المدرسي إلى ما يزيد عن الـ 50 في المائة بحسب أرقام بلدية طرابلس. عندما يعود هؤلاء الأولاد، سيُغني الكثير منهم أمام العسكر أغانيهم المفضلة، وهي أناشيد "جبهة النصرة" و"داعش". لن يكون المشهد جميلاً عن عودة الحياة إلى طبيعتها.
لكن الانتشار العسكري المستجد في شوارع باب التبانة الداخلية لا يطال كل هذه الشوارع. على بُعد أمتار من "المربع الأمني" الذي سيطر عليه الجيش، ينتشر عشرات الشبان ضمن مجموعات في الشوارع الضيقة. يقول صهيب، وهو إبن طرابلس، إن الجيش لم ولن يدخل إلى هذه الأحياء. برأيه هي وكرٌ جدّي للمتشددين. يشير إلى أن هناك ممرات تم فتحها بين المباني، ما يجعل التحرك غير محصور في الشوارع. صهيب كان محقاً، إذ لا وجود لعسكريين في هذه الأحياء.
يقول أحد رجال الدين الشماليين الذين شاركوا في مفاوضات الساعات الأخيرة التي سبقت وقف إطلاق النار بين الجيش اللبناني ومسلحي "النصرة" و"داعش" فجر يوم الاثنين الماضي، إن الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه ينصّ على عدم دخول الجيش إلا إلى "المربع الأمني التابع لجامع إبن مسعود"، ومداهمة منزلي شادي المولوي وأسامة منصور. ويُضيف الشيخ إن الاتفاق نصّ على السماح لمقاتلي "النصرة" بالانسحاب بسلاحهم إلى أحياء أخرى من التبانة.
يؤكّد كثيرون في طرابلس على أن المسلحين لم يخسروا أياً من مقاتليهم في الاشتباكات مع الجيش، وأن الاعتقالات التي أعلن الجيش أنها طالت 162 شخصاً، هي مجرد انتصار معنوي يُريده الجيش، "فما نعرفه أن الجيش لم يوقف حتى اللحظة إلا اثنين من الذين شاركوا في المعارك".
في تفاصيل رواية ما جرى، كما يرويها مشاركون في عملية التفاوض لـ"العربي الجديد"، فإن الاشتباك الأول حصل في الأسواق القديمة مع مجموعة عمر ميقاتي، نجل أحمد ميقاتي (أوقفه الجيش قبل الاشتباك بأيام، وهو يُعتبر أحد الأساسيين في "داعش" من اللبنانيين). واتفق على خروج هذه المجموعة من الأسواق القديمة لطرابلس، باتجاه التبانة بشرط عدم أخذ المسلحين أسلحتهم معهم، مقابل إطلاق سراح أسيرين للجيش سبق أن خطفهما المسلحون خلال المعارك، وهو ما حصل. خرج نحو 23 شاباً، وهو عدد المجموعة المقاتلة، وتواروا عن الأنظار. وقد قاد أحد سياسيي المدينة هذه المفاوضات. وتقول مصادر طرابلسية مطلعة إن الجيش صادر كميات كبيرة من الذخيرة من الأسواق إضافة إلى أنواع من الأسلحة الضرورية لحرب الشوارع، من بنادق "كلاشنيكوف" ورشاشات وقواذف أر بي جي وبـ 10.
انتقلت المعارك إلى التبانة. استخدم الجيش قوة نارية كبيرة. الدمار الحاصل يُشير إلى ذلك. لكن المعركة لم تُحسم عسكرياً. حاول الجيش الإيحاء بذلك، لكن ضباط الاستخبارات في الشمال يعلمون أن الأمر تُرك للمفاوضات غير المباشرة مع "جبهة النصرة". فاوض أمير "النصرة" في القلمون أبو مالك التلّ، من جرود القلمون عبر عدد من رجال الدين. أحدهم عبر جرود عرسال (في أقصى الشرق اللبناني) للقائه ونقل مطالب الجيش ومطالبه.
هدّد الجيش بالحسم العسكري، فهددت جبهة النصرة بإيقاع عدد كبير من الخسائر في صفوف الجيش. بدأ التهديد بقتل العسكريين المحتجزين لديها منذ معارك عرسال منذ أغسطس/آب الماضي، وصولاً إلى فتح معركة عرسال مجدداً، إضافةً إلى سلسلة من المعارك المتنقلة على طول الأراضي اللبنانيّة وعرضها. وصل الأمر بـ"النصرة" لأن تسمي عدداً من تلك المناطق، وكأن قيادتها على ثقة بأن الإشارة إلى المناطق التي توجد فيها خلايا نائمة، لا يعني كشف هذه الخلايا.
ما ينقله الوسطاء من تهديدات "النصرة" خطير جداً. "سعت قيادة جبهة النصرة إلى خلق توازن قوة في لبنان وطرح نفسها المدافع الأول عن أهل السنة" يقول أحد فعاليات طرابلس. هل نجحت؟ كلا يُجيب. لكن كلام الأطفال قد يحمل الجواب. عند سؤال أحد الأطفال النازحين من التبانة: هل ستنتسب إلى الجيش عندما تكبر؟ يُجيب منتفضاً: "أبداً سأنتسب إلى جبهة النصرة". وعند الاستفسار عن السبب يقول "النصرة تُدافع عن شبابها، ألم ترَ كيف حمت شادي وأسامة، أما الجيش فيا حرام".
بعد سلسلة التهديدات المتبادلة بين الجيش و"النصرة"، توصل الطرفان إلى تسوية قضت بدخول الجيش إلى مناطق معينة في التبانة، والسماح للمقاتلين بمغادرتها قبل الدخول مع سلاحهم، مقابل إطلاق سراح أسير للجيش سبق أن خطفه خلال المعارك، والامتناع عن قتل العسكريين المخطوفين. أمّا المجموعة التي قاتلت الجيش في المنية، فقد هرب معظم مقاتليها باتجاه الجرود وهي لم تكن جزءاً مهماً من الاتفاق كون أعضائها لا ينتمون مباشرةً لـ"النصرة".
انتهت المعارك العسكرية المباشرة بين الجيش و"النصرة" و"داعش"، لتستمر حرب أجهزة الاستخبارات، في انتظار الاشتباك المقبل. في هذا الوقت، باتت معظم المجموعات المسلحة في شمال لبنان تتبع مباشرة إما لـ"النصرة" أو لـ"داعش"، اللذين يعتبران الساحة اللبنانيّة ساحة لتوجيه الرسائل، ولإشغال حزب الله.