عادت الولايات المتحدة لتكون مسرحاً لصراعٍ دبلوماسي بين مصر وإثيوبيا، على خلفية فشل مفاوضات سد النهضة وإصرار أديس أبابا على التنصّل من حتمية الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل السد، بعدما ضربت عرض الحائط بالتدخلات الدولية الخجولة والوساطات الإقليمية، وأنجزت الملء الأول للسد من دون إخطار مسبق للقاهرة والخرطوم، ما أثر بالفعل في كفاءة المنظومة المائية السودانية، وسيؤثر بالمستقبل القريب في نِسَب وصول المياه إلى بحيرة ناصر. وازداد الصراع الدبلوماسي سخونة مع فشل مساعي مصر بدعم أميركي رسمي من البيت الأبيض، في استصدار قرار أو بيان من مجلس الأمن الدولي بشأن القضية، في مقابل نجاح إثيوبيا بدعم صيني وروسي، في وقف مناقشة القضية بمجلس الأمن على الرغم من المحاولات الفرنسية والأوروبية لتقريب وجهات النظر، حرصاً على عدم طرح قضايا متعلقة بالأنهار التي تنبع من الدولتين اللتين تملكان حق النقض (فيتو) على مجلس الأمن، ولمنع خلق أي سابقة ترتب عليها التزامات قانونية.
فشلت مصر في الحصول على دعم مجلس الأمن
وبعد نشر موقع "فورين بوليسي" تقريراً عن وجود نوايا لدى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لمنع بعض المساعدات عن إثيوبيا كعقاب على الحرج البالغ، الذي تسبّب له فيه رئيس الوزراء آبي أحمد، وضياع فرصة كان ترامب يراهن عليها للمطالبة بمنحه جائزة نوبل للسلام، صعد الصراع الدبلوماسي الخفي إلى السطح. وبات واضحاً تأزم المحاولات المصرية لتحجيم قدرات التواصل الكبيرة التي أصبحت إثيوبيا تملكها في الأوساط السياسية الأميركية، الأمر الذي يتطلب مزيداً من العمل والتغيير النوعي في الأداء والتعريف بمطالب ومحددات مصر في قضية سد النهضة، بحسب مصادر دبلوماسية مصرية متابعة للتحركات الخارجية في هذا الملف منذ سنوات.
وأوضحت المصادر لـ"العربي الجديد"، أن المقاربة الأميركية لملف سد النهضة لا يمكن تصنيف تفاصيلها على أساس حزبي أو مؤسساتي فقط، فليست كل دوائر الحزب الجمهوري مع الموقف المصري على الرغم من الموقف الإيجابي لترامب، وليست كل دوائر الحزب الديمقراطي مع إثيوبيا، على الرغم من المواقف المتتابعة من قيادات الحزب وبعض الشخصيات المؤثرة في حملة المرشح للرئاسة جو بايدن، وموقف الأخير الذي يبدو مبدئياً ومتحفزاً تجاه النظام الحاكم في مصر.
وكشفت المصادر أن فكرة فرض عقوبات أو منع مساعدات عن إثيوبيا ليست جديدة، بل تم التلويح بها لأديس أبابا مباشرة في فبراير/شباط الماضي بالتوازي مع ممارسة ترامب على آبي أحمد "ضغوطاً كبيرة" لإجباره على إنهاء المفاوضات هذا الشهر، معظمها تتعلق بالتدخل الأميركي لسرعة صرف إثيوبيا دفعات قرض صندوق النقد الدولي، الذي وافق عليه المجلس التنفيذي للصندوق في ديسمبر/كانون الأول الماضي بقيمة 2.9 مليار دولار، وتوجيه عدد من كبار المستثمرين الأميركيين للعمل في إثيوبيا، فضلاً عن الدعم السياسي في مواجهة معارضي أحمد، الذين من المتوقع تكتلهم ضد حزبه الجديد "الازدهار" في الانتخابات العامة المقررة في وقتٍ لم يحدّد من العام المقبل، بعد أن كان مفترضاً إجراؤها في 29 أغسطس/آب المقبل.
ووفقاً للمصادر، ففي ذلك الوقت كان ترامب غاضباً بشدة من الطريقة التي يتعامل بها آبي أحمد مع مبادرته لإنهاء المفاوضات، وكانت نقطة التخيير بين المكافأة والعقاب محوراً رئيسياً للقاء وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، مع أحمد خلال زيارته أديس أبابا في ذلك الوقت، في أعقاب اتصال هاتفي أجراه ترامب به لتحفيزه على مواصلة التفاوض. وفي تلك الزيارة أدلى بومبيو بتصريح قال فيه إن "اتفاق سد النهضة بحاجة لمزيد من الوقت لتصفية الخلافات".
وأضافت المصادر أن أحمد حاول على مدار الأشهر التالية التهرب من تعهداته لترامب، بحجة أن بقاءه في السلطة وفوز حزبه في الانتخابات المقبلة، هو الضامن الوحيد لتنفيذ أي اتفاقات بشأن السد مع مصر والسودان. وهو الأمر الذي نجح ليس فقط مع الإدارة الأميركية، بل كان أحد الأسباب التي دعت مصر لإبداء قدر من المرونة في العديد من المواقف على عكس اتجاهاتها السابقة. كما تم للسبب نفسه التغاضي عن تصريحات إثيوبية حادة، كانت أديس أبابا تبرر دائماً أنها مخصصة "للاستهلاك المحلي"، حتى انتهى الأمر بإعلانها انتصارها بإنجاز الملء الأول الأسبوع الماضي.
غضب ترامب بشدة من الطريقة التي يتعامل بها آبي أحمد مع مبادرته لإنهاء المفاوضات
لكن المشكلة التي تواجه ترامب بتنفيذ تهديداته هي أن المسألة ليست بالبساطة المتوقعة لا سياسياً ولا إجرائياً، فالمصادر المصرية نفسها تتحدث عن "دوائر مؤثرة داخل الإدارة الأميركية ذاتها وفي وزارة الخارجية تحديداً، مقتنعة تماماً بضرورة دعم حكومة آبي أحمد، ليس فقط باعتبارها ضامنة لاستقرار إثيوبيا التي من الممكن تفجيرها بسهولة بتغذية النزعات العرقية والمظلوميات القومية، ولكن أيضاً بسبب سد النهضة نفسه، وما سيترتب عليه وعلى المشاريع التنموية المختلفة من تحويل إثيوبيا إلى مركز ثقل حقيقي في المنطقة يمكن الرهان عليه لقيادتها والتأثير على الدول المجاورة".
وأوضحت المصادر أن هناك مسألة متعلقة بالعامل الصيني وتأثيره على الأوضاع في إثيوبيا، تثير خلافاً واسعاً داخل الإدارة الأميركية، فالتواجد الصيني الاقتصادي والسياسي في إثيوبيا كبير وعميق وقديم، ويرتبط أساساً بتوجيه الحكومة الصينية سلسلة كبيرة من الاستثمارات والمساعدات في كل المجالات، لا سيما على صعيد تطوير البنية التحتية والمرافق والمنشآت الحكومية والجذب السياحي. وتعتبر بعض تقارير تقدير الموقف الداخلية في واشنطن ذلك من أسباب فتور العلاقات بين واشنطن وأديس أبابا والهجوم الشعبي، من بعض القوميات تحديداً، على السياسات الأميركية بين فترة وأخرى.
وإزاء تلك المسألة تختلف الرؤى في واشنطن، بين فريق على رأسه ترامب يرى وجوب التصدي للتوغل الصيني في أفريقيا بتغليظ العقوبات ومنع المساعدات والحرمان من بعض المزايا، وهناك فريق آخر، وفق المصادر، على رأسه بومبيو وعدد من أكبر قيادات الخارجية الأميركية، يرون وجوب الاستثمار في إثيوبيا وغيرها من الدول ومقارعة الصين في توجيه الاستثمارات والمساعدات، كحل وحيد لتحسين وضع الولايات المتحدة في شرق أفريقيا ووسطها.
يُذكر أن عدداً من السفراء والمسؤولين الدبلوماسيين الأميركيين وجهوا نهاية الشهر الماضي خطاباً مشتركاً لوكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل، انتقدوا فيه موقف الإدارة الأميركية تجاه أزمة سد النهضة وما وصفوه بـ"انحياز واشنطن للقاهرة". وظهر أن الموقعين على الخطاب شغلوا منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية في عهود سابقة وهم: جوني كارسون (سفير أسبق في زيمبابوي وكينيا)، وهرمان كوهين (عمل مع الجمهوريين)، وشيستر كروكر (عمل مع الجمهوريين)، وجندايي فرايزر (سفيرة سابقة في جنوب أفريقيا)، وجورج موز (عمل مع الديمقراطيين)، سوزان رايس (شغلت المنصب في عهد الرئيس السابق باراك أوباما)، وليندا توماس غرينفيلد (عملت مع إدارتي أوباما وترامب).
ركز الخطاب على اعتبارات سياسية بحتة لا صلة لها بالواقع المائي أو الاجتماعي أو الاقتصادي لمصر وإثيوبيا، إذ دعا الإدارة الأميركية إلى استثمار توجه آبي أحمد نحو "الإصلاح والتغيير" في بلده لإقامة علاقات مفيدة للطرفين، ودعم تواجد واشنطن في أديس أبابا كقوة كبرى في منطقة شرق أفريقيا.
أما في ما يتعلق بقضية سد النهضة والموقف المصري، فأكدت المصادر أن أغلب الدوائر المهتمة في مجلسي النواب والشيوخ بمن في ذلك في الحزب الجمهوري، لها مواقف أكثر إيجابية تجاه إثيوبيا بالنسبة لمصر، حتى مع تكثيف الدعاية والحشد في أوساط عديدة خلال الشهرين الماضيين، سعياً لاجتذاب دعم مزيد من النواب والسياسيين ضد المد الأفريقي اليهودي الداعم بشدة لإثيوبيا.
وتعتبر مصادر دبلوماسية عديدة أن رهان مصر الوحيد على الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب لحل قضية سد النهضة والخروج باتفاق يهدف لتقليل الأضرار "لا يضمنه شيء"، لأن الولايات المتحدة من أقل الدول مساعدة لإثيوبيا في مشروع السد وتأثيراً عليها في هذا الإطار. أما الدول الأكثر مساعدة لها اليوم واستفادة من السد لاحقاً، مثل الصين وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، فهي ما زالت مقتنعة إلى حد كبير بالمصفوفات الإثيوبية، التي تدّعي عدم إيقاع أي أضرار بمصر في أي مرحلة من ملء وتشغيل السد. وهو ما يناقض المصفوفات والتقارير الفنية المصرية، التي لا تتحدث فقط عن خروج آلاف الأفدنة من الرقعة الزراعية على مراحل، ربما تبدأ في العام بعد المقبل، ولكن أيضاً بسبب المصروفات الضخمة التي يتحتم على مصر أن تنفقها في المستقبل البعيد، لتحسين الظروف البيئية للمياه وتحسين جودتها وجعلها صالحة للشرب، بالنظر للتوسع الكبير الذي سيطرأ على استخدامها للأغراض الزراعية والصناعية والتنموية في كل من إثيوبيا والسودان.
تؤيد الصين وروسيا إثيوبيا في ملف سد النهضة
وعجزت إدارة ترامب منذ بداية العام عن تحقيق اختراق كبير في الملف وإجبار إثيوبيا على التفاوض الجاد وصولاً إلى اتفاق يراعي جميع الأطراف، ما أدى إلى انعكاس سلبي على المسار التفاوضي بالانسداد، وعقّد الأمور أكثر على الوفد المفاوض المصري بشقيه الفني والقانوني. وسبق أن أفادت مصادر فنية حكومية ودبلوماسية مصرية واسعة الاطلاع على مجريات التفاوض، بأن وزارتي الري والخارجية كانتا تتلقيان باستمرار رسائل طمأنة من جهاز المخابرات العامة والدوائر اللصيقة برئاسة الجمهورية، بأن الموقف المصري الفعلي في القضية قوي، وأن العلاقة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وترامب سيكون لها أثر إيجابي في التوقيت الحاسم من القضية، وأن الاتصالات الجارية مع الروس والفرنسيين وحتى الصينيين، لتأكيد عدم قبول أي من تلك الدول إيقاع الضرر بمصر.
وأعلنت إثيوبيا أخيراً أنها "تبحث عن اتفاق يمكن مراجعته في أي وقت عندما تحتاج هي ذلك بدلاً من اتفاق ملزم"، على عكس ما تم الاتفاق في القمة الأفريقية المصغرة، الأسبوع الماضي، التي كللت فشل مفاوضات امتدت أسبوعين حضرتها أميركا كمراقب، وفشلت القاهرة في تحقيق أي مكسب منها.
وبذلك أصبحت القضية متعددة المستويات من ناحية تمييز طبيعة الاتفاقات ونطاقها؛ فهناك خلاف بين مصر وإثيوبيا على مدى الإلزامية "القانونية" للاتفاق على قواعد التشغيل، وهناك خلاف على مسألة تحديد آلية ملزمة لفض المنازعات بين الدول الثلاث، وهناك رغبة إثيوبية في أن تظل كل قواعد الملء والتشغيل استرشادية ويحق لها وحدها تغييرها حسب حاجتها للتخزين.