16 نوفمبر 2024
معركة الأمعاء الخاوية والركود السياسي
جاء إضراب الأسرى الفلسطينيين في فترة شهدت ركودا سياسيا، توطّد فيه الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة. والأهم مع تراجع قضيتهم على الأجندات الفلسطينية المختلفة، إذ تنحصر المطالبات بإطلاق قدامى المعتقلين منذ ما قبل اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو عام 1993)، وقد أحيت قضية 6500 أسير، أضرب منهم ما بين 1600 و1700 أسير عن الطعام منذ العاشر من إبريل/ نيسان الماضي، الموات السياسي، ولكن من دون أن يبلغ الأمر درجة إطلاق هبّةٍ شعبية توحد الطاقات، وتجمع شتات التيارات والجمعيات والفصائل حتى الآن. حتى إن قضية الأسرى، على سخونتها، لم تنعكس على الحملات الدعائية للانتخابات البلدية إلا على نحو ضيق، وبدعوى أن التنافس يجري على تقديم الخدمات الأساسية، وكأنه يمكن توفير الخدمات المتشعبة في ظل الحصار الذي تتعرّض له مدن الضفة الغربية وبلداتها، بما فيها العاصمة المؤقتة رام الله، مركز السلطة الفلسطينية.
يتمثل الحراك المشار إليه في إقامة تجمعاتٍ يتم خلالها بث الأخبار المتعلقة بالإضراب وإطلاق كلمات التضامن، بمشاركة ذوي الأسرى، وخصوصا الأمهات والشقيقات المكلومات، وفي أجواء عاطفية محتقنة، وبالذات حين تتولى إحدى الأمهات مخاطبة الحاضرين بصورة عفوية، يتم خلالها نعي التقصير الذي يتحمل الجميع مسؤوليته، بمن فيهم الصليب الأحمر الذي لا يستشعر مدى خطورة الوضع الذي يحيق بالأسرى، ويتصرف بطريقةٍ شبه روتينيةٍ، ويستسلم لبيرقراطية الاحتلال المتعمدة، كما قالت إحداهن، وهي تحضن صورة ابنها الأسير. وهو ما يولّد لدى الجمهور الذي يجتمع أفراده بأعداد ليست كبيرة في خيام الاعتصام، ومنها خيمة دوار الساعة، أو دوار ياسر عرفات، شعورا بالحيرة إزاء أنجع الوسائل الممكنة من أجل تصعيدٍ مثمرٍ ومحسوب.
وقد لا يعرف كثيرون أن الأسرى لم يطرحوا مطلب استعادة حريتهم، وإنما تقدّموا بمطالب
إجرائية لتحسين ظروف الاعتقال، تتراوح بين إنهاء سياسة الاعتقال الإداري والعزل الانفرادي والإهمال الطبي، وتمكين ذويهم من زيارتهم بصورة منتظمة، وخلال فترات قصيرة بين زيارةٍ وأخرى. وإن التصعيد، في واقع الأمر، يمارسه المحتلون الذين يرفضون الإصغاء لهذه المطالب العادية، ويختارون، بدلا من ذلك، سياسة التهويل ومضاعفة الظروف غير الإنسانية للاعتقال، وتوقيع مزيد من العقوبات وأشكال التنكيل، مثل زجّ المضربين في زنازين انفرادية، ومنعهم من الخروج إلى ما تسمى الفورة (باحة هواء طلق صغيرة بين جدران عالية)، وصولا إلى زج بعضهم مع سجناء جنائيين خطرين، أو استفزازهم بتقديم وجبات طعام لهم، ثم فبركة شريط لمروان البرغوثي، يطالب فيه بفك الإضراب، أو اختيار وإقصاء من يشاؤون لتمثيل المضربين، وذلك بإقصاء أمين عام الجبهة الشعبية، أحمد سعدات، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح البرغوثي. علاوة على محاولات التغذية القسرية التي تشكل خطرا على حياة المضربين، وسبق أن توفي مضربون عن الطعام لدى تلقيهم أشكال القسر هذه، كما يقول المتحدّث الرسمي باسم جمعية "واعد للأسرى والمحررين"، عبد الله قنديل، ومما يسترعي الانتباه أن الكنيست كان قد وافق على مشروع قانون التغذية القسرية للمعتقلين في يوليو/ تموز 2014. ومغزى ذلك أن المشرّعين الإسرائيليين الحكوميين والبرلمانيين يدركون مسبقا أن ثمة ظروفاً داخل السجون قد تحمل الأسرى على الإضراب عن الطعام. وبدلا ًمن سن قانونٍ لتجنب نشوئها، فإنه يُصار إلى تشريع معاقبة المضربين، لا من تسبب بلجوئهم إلى الإضراب. وإذ تطعن هذه الإجراءات بالغة العسف بالصورة المرسومة للدولة العبرية دولة ديمقراطية، فإن من المؤسف أن لا تلقى هذه القضية ما تستحقه من اهتمام دولي، وأن يُنظر إليها من زاوية ضيقة ومغلوطة، كتمرد سجناء، على الرغم من أنهم لم يلجأوا إلى استخدام أيٍّ من وسائل العنف. وعلى الرغم من أنها احتجاجات مشروعة، ومن الواجب، بحكم بساطة المطالب، أن يتم التضامن مع الأسرى، وتفهم مطالبهم والضغط على حكومة الاحتلال، لا أن يتم تبخيس هذه القضية ما تستحقه من اهتمام.
وبينما شدد الرئيس محمود عباس خلال زيارته واشنطن على أن مطالب الأسرى "إنسانية وبسيطة"، إلا أن هذا الإيجاز في التعبير عن جوانب المسألة لم يُغر المسؤولين الأميركيين بالإصغاء إليه، وآثروا، بدلاً من ذلك، الاستماع إلى المطالب السقيمة لحكومة نتنياهو بوقف المخصصات المالية لذوي الأسرى والشهداء، بادعاء أن صرفها يمثل شكلا من التحريض وتغذية الكراهية. والمشكلة في الأداء السياسي الفلسطيني أنه لا ينجح في الربط، الواجب باستمرار، بين قضايا راهنة وجزئية من الواجب إثارتها بقوة، مثل قضية الأسرى في هذه الفترة، والمطالب الشاملة بوقف الغزو الاستيطاني وإنهاء الاحتلال وحل قضية اللاجئين حلا عادلا وفق القرارات الدولية ذات العلاقة. خصوصا أن قضية الأسرى قابلة للمعالجة، لو كانت حكومة الاحتلال تلتزم بالمواثيق الدولية وأحكام القانون في تعاملها مع آلاف المغيبّين وراء الشمس، وبينهم 300 طفل.
وواقع الحال أن التقصير لا يقع على المستوى السياسي فقط، بل يشمل عشرات من جمعيات المجتمع المدني وهيئاته التي لا تتجند بصورة منهجية ودينامية في إثارة قضية الأسرى
وطرحها بين أيدي الجمعيات الحقوقية والإنسانية في العالم، بما في ذلك مع هيئات منبثقة عن الأمم المتحدة. وقد دأب المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج على توجيه اللوم ومختلف أشكال النقد إلى المستوى السياسي، مع إعفاء بقية مكونات الحياة العامة من أية مسؤولية عن التقصير. وهي نزعة تؤدي إلى الشلل والشللية، وإلى استخدام المعارضة من أجل طرح المسؤولية الاجتماعية والوطنية جانباً، وبدعوى أنه يكفي أن يكون المرء معارضاً لكي يكون الصواب حليفه في كل ما يعمل وما لا يعمل.. وبالذات ما يستنكف عن أدائه.
وبينما تسير الحياة في مدينةٍ كرامَ الله سيرا طبيعيا اعتياديا، بما في ذلك قرب خيام الاعتصام، فإنه يمكن، في الوقت نفسه، ملاحظة أن كثيرين يستهلون أحاديثهم اليومية حول معركة الأمعاء الخاوية بالإشارة كل يوم إلى العدد الذي بلغته أيام الإضراب، مع إبداء الحذر الذي يبلغ درجة التطيّر من أن يصيب الأسرى مكروه. تجري هذه الأحاديث ليس بعيدا عن حواجز جيش الاحتلال التي تستقبل المتجهين إلى رام الله والخارجين منها، مع الإدراك العام والتام أنه ليس في جعبة الاحتلال سوى التفنن في أشكال التنكيل الفردي والجماعي، بينما يجري تمزيق الضفة الغربية كي تلائم شبكة الطرق التجمعات الاستيطانية. بينما تسيطر قوات الاحتلال على جميع الطرق، وتنصب شواخص مرورية زرقاء على جانبي الطرق بأسماء المستوطنات، باعتبارها مدناً إسرائيلية، وكأن العابر يشقّ طريقه داخل الدولة الإسرائيلية، وليس في الضفة الفلسطينية الغربية. يشير المرء إلى ذلك مع التنويه إلى أن معركة الأمعاء الخاوية دخلت، في الأيام القليلة الماضية، منعطفا حاسما، وأن الغضب الشعبي قد لا يظل مكبوتا، إذا لم تتم تلبية المطالب، وإذا مضى الاحتلال في غطرسته.
يتمثل الحراك المشار إليه في إقامة تجمعاتٍ يتم خلالها بث الأخبار المتعلقة بالإضراب وإطلاق كلمات التضامن، بمشاركة ذوي الأسرى، وخصوصا الأمهات والشقيقات المكلومات، وفي أجواء عاطفية محتقنة، وبالذات حين تتولى إحدى الأمهات مخاطبة الحاضرين بصورة عفوية، يتم خلالها نعي التقصير الذي يتحمل الجميع مسؤوليته، بمن فيهم الصليب الأحمر الذي لا يستشعر مدى خطورة الوضع الذي يحيق بالأسرى، ويتصرف بطريقةٍ شبه روتينيةٍ، ويستسلم لبيرقراطية الاحتلال المتعمدة، كما قالت إحداهن، وهي تحضن صورة ابنها الأسير. وهو ما يولّد لدى الجمهور الذي يجتمع أفراده بأعداد ليست كبيرة في خيام الاعتصام، ومنها خيمة دوار الساعة، أو دوار ياسر عرفات، شعورا بالحيرة إزاء أنجع الوسائل الممكنة من أجل تصعيدٍ مثمرٍ ومحسوب.
وقد لا يعرف كثيرون أن الأسرى لم يطرحوا مطلب استعادة حريتهم، وإنما تقدّموا بمطالب
وبينما شدد الرئيس محمود عباس خلال زيارته واشنطن على أن مطالب الأسرى "إنسانية وبسيطة"، إلا أن هذا الإيجاز في التعبير عن جوانب المسألة لم يُغر المسؤولين الأميركيين بالإصغاء إليه، وآثروا، بدلاً من ذلك، الاستماع إلى المطالب السقيمة لحكومة نتنياهو بوقف المخصصات المالية لذوي الأسرى والشهداء، بادعاء أن صرفها يمثل شكلا من التحريض وتغذية الكراهية. والمشكلة في الأداء السياسي الفلسطيني أنه لا ينجح في الربط، الواجب باستمرار، بين قضايا راهنة وجزئية من الواجب إثارتها بقوة، مثل قضية الأسرى في هذه الفترة، والمطالب الشاملة بوقف الغزو الاستيطاني وإنهاء الاحتلال وحل قضية اللاجئين حلا عادلا وفق القرارات الدولية ذات العلاقة. خصوصا أن قضية الأسرى قابلة للمعالجة، لو كانت حكومة الاحتلال تلتزم بالمواثيق الدولية وأحكام القانون في تعاملها مع آلاف المغيبّين وراء الشمس، وبينهم 300 طفل.
وواقع الحال أن التقصير لا يقع على المستوى السياسي فقط، بل يشمل عشرات من جمعيات المجتمع المدني وهيئاته التي لا تتجند بصورة منهجية ودينامية في إثارة قضية الأسرى
وبينما تسير الحياة في مدينةٍ كرامَ الله سيرا طبيعيا اعتياديا، بما في ذلك قرب خيام الاعتصام، فإنه يمكن، في الوقت نفسه، ملاحظة أن كثيرين يستهلون أحاديثهم اليومية حول معركة الأمعاء الخاوية بالإشارة كل يوم إلى العدد الذي بلغته أيام الإضراب، مع إبداء الحذر الذي يبلغ درجة التطيّر من أن يصيب الأسرى مكروه. تجري هذه الأحاديث ليس بعيدا عن حواجز جيش الاحتلال التي تستقبل المتجهين إلى رام الله والخارجين منها، مع الإدراك العام والتام أنه ليس في جعبة الاحتلال سوى التفنن في أشكال التنكيل الفردي والجماعي، بينما يجري تمزيق الضفة الغربية كي تلائم شبكة الطرق التجمعات الاستيطانية. بينما تسيطر قوات الاحتلال على جميع الطرق، وتنصب شواخص مرورية زرقاء على جانبي الطرق بأسماء المستوطنات، باعتبارها مدناً إسرائيلية، وكأن العابر يشقّ طريقه داخل الدولة الإسرائيلية، وليس في الضفة الفلسطينية الغربية. يشير المرء إلى ذلك مع التنويه إلى أن معركة الأمعاء الخاوية دخلت، في الأيام القليلة الماضية، منعطفا حاسما، وأن الغضب الشعبي قد لا يظل مكبوتا، إذا لم تتم تلبية المطالب، وإذا مضى الاحتلال في غطرسته.