معركة اسكتلندا.. صخب بلا قلب طاولات

22 سبتمبر 2014

اسكتلندي معارض للاستقلال فرح بنتيجة الاستفتاء (سبتمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

لا زعيق أو شتائم في الاستوديو، ولا قلب طاولات على رؤوس الضيوف. لا مقدمات مطولة من مذيعي "توك شو" يقدمون أوسمة في الوطنية، ودروساً في معاقبة "العملاء". لا خطاب تخوين، أو حملات تلفيق واتهامات وفضائح. الاستفتاء على استقلال اسكتلندا عن المملكة العظمى شهد معركة كسر عظم بين معسكري "نعم" و"لا" لاستقلال الإقليم، إلا أن التغطية الإعلامية للحدث المصيري تمكنت من أن تعكس صخب حرب الحجج والحجج المضادة، وأن تحافظ، في الوقت نفسه، على قدر لا بأس به من التوازن في تمثيل المعسكرين.
لم يكن المعسكران طرفين متكافئين. ساسة العاصمة من كل الأطياف تهافتوا على الإقليم "المتمرد"، لإقناع الناخبين بالبقاء سوياً، محذرين من مخاطر الانفصال وهزالة الدولة الناشئة. مصارف وشركات اقتصادية أعلنت نقل مقارّها إلى لندن في حال الانفصال، أعداء الأمس في برلمان ويستمنستر وحّدوا خطابهم في مخاطر مغامرة الاستقلال.. اتهم المعسكر المؤيد للاستقلال رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، بضخ حملات تخويف، والضغط الاقتصادي عبر استخدام علاقاته بكبريات الشركات. واتهم المعسكر المؤيد للوحدة القوميين الداعين للاستقلال بالتلاعب بالمعطيات الاقتصادية، لإقناع الناخبين بقدرة الدولة الجديدة على ضمان استمراريتها.. حملة ضارية في وسائل الإعلام الحديث بين "النعم واللا"، حوارات إعلامية لقادة المعسكرين خاطبت مختلف شرائح المجتمع، من شباب وشيوخ وطلاب وعمال...
بيضة القبان في الحملة الشرسة بين الطرفين كانت الإعلام التقليدي الذي قدم مقاربة متوازنة، إلى حد ما، لفريقي الاستقلال والوحدة، في حين بقيت نبرة الخطاب الإعلامي مرجحة لكفة الوحدة: كيف يمكن لكبريات وسائل الإعلام البريطانية، المتركزة في العاصمة والمرتبطة بمؤسسات الدولة، بكل أنواع العلاقات، أن تقيم توازناً محايداً تماماً لصالح معسكر الاستقلال، مع ما سوف يحمل هذا الاستقلال من مترتباتٍ على أوضاعها وعملياتها وطواقمها وعلاقاتها مع الدولة الجديدة؟ ركّزت الحملة المؤيدة للاستقلال، في انتقادها أداء الإعلام، على الحملات التي شنتها صحف لندن ضد استقلال الإقليم. وهذه الصحف، على خلاف الإعلام المرئي والمسموع، غير ملزمة بالحفاظ على الحياد، وهي تعبر عن موقف سياسي من مختلف القضايا. أما تغطية الإعلام التلفزيوني فقد عكست قدراً كبيراً من التوازن بين الطرفين، لم يكن كافياً لإقناع الفريق الاستقلالي بأنه نال حصة وافية من التغطية.


كان على هذه التغطية أن تعكس النقاش السياسي المرتبط بالحملة، وهو نقاش سيطر عليه، إلى حد كبير، معسكر الوحدة، خصوصاً مع تعزيز الحملات السياسية في الأيام الأخيرة، وتوجه زعماء الأحزاب الكبيرة إلى اسكتلندا، في محاولةٍ للتأثير على الناخبين. على الرغم من التقليد العريق باعتماد الملكية الحياد في المسائل الدستورية، لم تمتنع الملكة عن توجيه رسالةٍ قويةٍ، عندما قالت رداً على سؤال صحافي، إن على أهالي اسكتلندا أن يفكروا جيداً في المستقبل قبل اتخاذ قرارهم. كان على إعلام لندن أن يتابع هذه الحركة الناشطة، في حين اعتبر الفريق المؤيد للاستقلال أن الإعلام كان لاعباً مؤثراً فيها، وليس مراقباً محايداً، وأن الخطابين الإعلامي والسياسي ساهما في تعزيز مخاوف الناخبين من عواقب الانفصال.
أثارت تغطية "بي بي سي" غضب مناصري استقلال الإقليم الذين تظاهروا أمام مقارها، استنكاراً لما اعتبروه تحيزاً لصالح الحملة المناهضة للاستقلال، في حين قالت المؤسسة إن تمثيلها الطرفين كان متوازناً تماماً. وشكلت تغطية الحدث مسألة حساسة للمؤسسة التي كانت ستواجه أزمةً، في حال فاز خيار الاستقلال، في ما يتعلق بمصير فروعها ومؤسساتها الاستكلندية. نجحت المؤسسة، إلى حد كبير، في تفادي الوقوع في فخ الوطنية، في تغطية نشاط الفريق المناهض للاستقلال، وهي التي تعتبر إحدى ركائز هذه الهوية الوطنية.
الأهم من ذلك كله أن الاستفتاء على استقلال الإقليم شكل كرنفالاً للديمقراطية في وسائل الإعلام، إذ سمح لأبناء الإقليم بتقرير مصيرهم سلمياً، من دون أن ينعت هؤلاء بالانفصاليين، أو أن يتهموا بالعمل على تقويض المصالح الوطنية، على الرغم من خطورة ما سوف يترتب عليه خيار الاستقلال. وأثار الاستحقاق نقاشاً واسعاً في الإعلام حول قضايا جوهرية، في مقدمتها العلاقة بين المركز والأقاليم وأداء البرلمان الوطني. وكان الاستفتاء مناسبة للاحتفاء باسكتلندا على شاشات التلفزة، بكل ألوان الإقليم وأصواته وفنونه وموسيقاه. ولعل أداء السياسة والإعلام في التعاطي مع تحدٍّ، من هذا الحجم، يؤكد أن الديمقراطية هي في أفضل تعبيراتها القبول بالآخر والتعايش معه، خارج منطق الإلغاء، حتى عندما تختار مجموعة كبيرة الانفصال.
 ركّزت الحملات السياسية العاتية بين الفريقين على مصير الإقليم الاقتصادي، والمترتبات الاقتصادية والمالية والمؤسساتية التي سوف تترتب على خيار الاستقلال. وعلى الرغم من الشعارات القومية لفريق الاستقلال، دارت رحى المعركة بالقليل جداً من العواطف والانفعالات، والكثير من الحجج العقلانية، والأهم أنها لم تشهد التقليد العربي الجديد في رقص ناخبات "منتصرات" على أبواب المقار الانتخابية.
 
    


 

دلالات
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.