قرابة عشر دقائق من السير على الأقدام، يمشيها زائر "معرض الدوحة الدولي للكتاب" داخل مبنى "مركز قطر الدولي للمؤتمرات والمعارض"، حتى يبلغ تلك التظاهرة الثقافية في دورتها الخامسة والعشرين، والمستمرة حتى 17 كانون الثاني/ يناير الجاري.
فئتان عمريتان تستهويهما زيارة أجنحة المعرض أكثر من غيرهما؛ الشباب والأطفال. فمن جهة، نجد شباباً وصبايا دون الثلاثين، يتجمّعون حول أجنحة دور النشر، ولديهم طلب محدّد: الرّوايات. ومن جهةٍ أخرى، لن تغيب عن المتجوّل في أي زاوية من أرجاء القاعة الكبيرة أصوات الأطفال وهم يصرخون ويلعبون، ومحاولات ذويهم في ضبطهم من خلال رشوةٍ بسيطة: الألعاب التي توفّرها أجنحة الأطفال.
لدى وقوفنا عند طبيعة الكتب التي تُباع أكثر من غيرها في المعرض، أي الروايات، تنبثقُ أسئلةٌ حول رواج هذا النوع الأدبي في سوق الكتاب. معظم الناشرين رأوا أنّ ذلك يعود إلى المكانة التي انتزعتها الرواية، إذ إنّها دفعت الكاتب العربي نحو إنتاج النصوص السردية الطويلة، ولبّت رغبة القرّاء الذين يحبّون القصّ ويصغون إليه. إضافةً إلى ما باتت تُلاقيه الرواية العربية أيضاً من اهتمام عبر ما يُعدُّ لها من جوائز، تُساهم في ولادة روائيين جدد، وتعمل على تكريس القُدامى كذلك.
في هذا السياق، التقينا أيمن عاطف، مسؤول المبيعات في جناح "دار بلومزبري"، وسألناه عن رأيه في انتشار الرواية العربية وترجمتها. بحسب الأخير، فإن هذا النوع الأدبي يُلاقي رواجاً مميزاً، في الخليج بشكل خاص، لسببين؛ الأوّل هو اسم الكاتب وشهرته، والثاني ما تقدّمه هذه النصوص من معرفة بقوالبَ ممتعة بعيدة عن الأساليب الأكاديمية. "فرواية الكاتب القطري عبد العزيز آل محمود، "القرصان"، لاقت ذاك الانتشار، خصوصاً بعد ترجمتها إلى الإنجليزية؛ لأنّها قدّمت للقارئ الأجنبي فكرةً عن منطقة الخليج وتاريخها وتراثها". في المقابل، يشير عاطف إلى أنّ الرّوايات العربية المنقولة إلى الإنجليزية تنتشر بين القرّاء الأجانب الذين يعيشون في الخليج والوطن العربي أكثر من انتشارها بينهم في بلادهم.
سؤالٌ آخر يطلُّ أيضاً، هو سؤال الترجمة. يُلاحظ زائر المعرض أنّ الكُتب المنقولة إلى العربية هي ما يتصدّر واجهات معظم دور النشر المشاركة. لم نجد إجابة شافيةً حول التساؤل عن انتشار الترجمات بهذا الشكل. "قلّة الكتّاب العرب، وعدم دأبهم على الإنتاج، إضافةً إلى الحدّ من الحرية والإبداع في عالمنا العربي"، هي عوامل تقدُّم الكُتب المترجمة على الكتاب العربي بالنسبة إلى عاطف. لكن حين سألناه عن تأثير الانتفاضات والثورات العربية على الحالة الإبداعية والكتاب العربي، رأى أنّها ليست كافية مقارنةً بما يحققه الكتاب المُترجم من انتشار. فبرأيه، وهذا ما يجمع عليه الكثير من الناشرين، أن الحالة العربية تستدعي زخماً أكبر في الإنتاج عموماً، والأدبي على وجه خاص.
حين ننظر في الكتيّب الصغير الذي وفّره المعرض لزوّاره؛ كي يسهّل عليهم الاطّلاع على كلّ بلدٍ مشارك، ودور النشر التي جاءت منه، سنرى أنّ سعياً واضحاً إلى تحقيق حضور عربيّ جامع تجلّى في هذه الدورة. فمن جهة، تتميّز الفعاليات التي يقيمها المعرض على هامشه، بتنوّعٍ من ناحية ضيوفها وموضوعاتها. ولعلّ أبرز هذه الفعاليات هي سلسلة جلسات امتدّت على يومين واختُتمت أمس بعنوان "تاريخ الكتاب: رحلة المعرفة"، تناولت مواضيع ترتبط بتطور الكتاب، تاريخيّاً، من المخطوط إلى المطبوع، والمخطوطات الإسلامية وعلومها، إلى جانب فنون الخط العربي وتحوّلاتها.
من جهةٍ أخرى، ولعلّ ذلك من أبرز الأمور اللافتة في المعرض، هو حجز دور النشر السورية مقاعد كثيرة، وتحقيقها لمشاركة لم تكن متوقّعة في ظلّ ما يعاني منه بلدها. أكثر من 15 دار نشر حضرت من سورية، بما فيها "اتحاد الكتّاب العرب". ومن الغريب حقاً أن يمر زائر المعرض بجناح يحمل اسم "الاتحاد"، الذي يعني أنها مشاركة رسمية من النظام السوري. صحيح أنّ الاتحاد ذو صبغة عربية، وقد وقع اتفاقيات تخوّله الاشتراك في معظم البلدان العربية، المناوئة بغالبيتها للنظام السوري الآن، إلا أن الصحيح أكثر أن هذا النظام ربما يستخدم تلك الاتفاقيات والبروتوكولات ليوصل رسائل سياسية معينة.
وفي هذا السياق، التقينا بيان محمد، مندوب "دار النايا"، وسألناه عن مشاركته، فقال: "من الجيّد أنّنا نشارك كسوريين هنا، لكننا واجهنا صعوبات كبيرة جدّاً حتى استطعنا الوصول؛ فصدور تأشيرات السّفر لم يكن يسيراً. ثمّة ناشرون أرسلوا كتبهم وما زالت في الصناديق والمستودعات، لأنّ تأشيراتهم لم تصدر إلى الآن". وعن حال الكتاب في سورية، وضّح محمد: "بطبيعة الحال، تراجعت حركة النشر هناك، فالمنشآت والمطابع بغالبها تعرضت إلى الهدم والحرق، فضلاً عن هجرة بعض الناشرين. وكذلك من البديهي أن تتراجع المقروئية أيضاً؛ الناس بالكاد يؤمّنون ثمن خبزهم، فهل سيشترون كتباً؟".
وفي حين حضرت المؤسسة الرسمية السورية ممثلة بـ "اتحاد الكتاب"، غابت دور نشر مصرية رسمية مهمة مثل "الهيئة المصرية العامة للكتاب" و"المركز القومي للترجمة" الذي حُجز له جناح في المعرض لكنه لم يشارك. فهل تكون أسباب غياب المؤسسات الرسمية المصرية الناشرة للكتب سياسيةً هي الأخرى؟
رغم أنّ الحصة الأكبر من الكتب المشاركة كانت للأدب، لكن، في المقابل، حقّقت الأبحاث والإصدارات الأكاديمية والمراجع التاريخية حضوراً لافتاً أيضاً في المعرض، من خلال دور نشر عديدة أبرزها "الشبكة العربية للأبحاث والنشر"، إلى جانب "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". كان لنا حديث مع مديرة الأرشفة والتوثيق والمكتبة في المركز، إنعام شرف، التي لم تُخفِ مفاجأتها من الاهتمام بإصدارات المركز التي تتميّز برصانتها البحثية والأكاديمية. وبرأيها، يرجع هذا الاهتمام إلى "طبيعة زوّار المعرض الذين ينتمون إلى جنسيات عربية متعدّدة يجذبها المحتوى الفكري الذي تفتقر له معظم دور النشر لاهتمامها، غالباً، بالإصدارات التجارية التي تلقى رواجاً أكثر".
وحول سلسلة الكتب المُترجمة التي يصدرها المركز ضمن سلسلة "ترجمان"، أكّدت شرف أنّ القرّاء يقتنونها أكثر من الكتب العربية. وبرأيها، تحظى هذه الكتب باهتمام أكبر "لأنّ المراجع الفكرية العربية الرّصينة قليلة للأسف، عدا عن الصورة النمطية التي تسيطر على ذهن القارئ العربي وتتلخّص في أنّ المراجع الأجنبية المحكّمة تتفوقّ بجانبها العلميّ على العربية".
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن تغيير مكان المعرض هذا العام لم يكن موضع استحسان، هذا ما لمسناه من الناشرين المشاركين والزوار. فـ "مركز قطر الدولي للمؤتمرات والمعارض" بعيد نسبياً عن العاصمة وعن منطقة الفنادق التي ينزل فيها الناشرون، إضافة إلى أنّ مساحات المبنى شاسعة، ويحتاج الزائر إلى قطع مسافةً طويلة كي يصل إلى أجنحة الدور. واعتبر كثيرون أن "مكان إقامة الدورات السابقة كان أفضل"، حيث كانت تنظّم في "أرض المعارض" في "الحي الثقافي كتارا".