مطعم السوسي

30 نوفمبر 2015
... أثر زمن آخر (حسين بيضون)
+ الخط -

للنار العالية التي تتراقص ألسنتها حول المقلاة المتفحّمة في يد المعلّم أحمد، حرارة غريبة. النار التي يساهم ارتفاع ألسنتها الصفراء في تدليل "السودة" المقلية، والتي سيضاف إليها بعد قليل شرائح من البصل وزخّات من دبس الرمان الحامض، ليست غريبة على الزبائن في مطعم الفول البيروتي. فالزبائن، باستثناء الجدد منهم، قد ألفوا هذا المشهد المحبوب الذي يعتبر من تفاصيل المطعم العتيق. غير أن هذه النار لا تحمل معها الحرارة المناسبة للطهي فحسب، بل فيها أيضاً حرارة من نوع مختلف تماماً.

حرارةٌ تشبه بيروت أخرى كانت ذات يوم، هي أحلى ما في المطعم الشعبي بعيداً عن نوعية الأطعمة التي يقدّمها. ولا تمثّل هذه الحرارة خاصية العلاقة التقليدية بين بائع وزبون فقط، بل فيها ما هو أعمق من ذلك. فيها أثر زمنٍ آخر. شيء يشبه مزيج العلاقات الشعبية العادية البعيدة عن التكلّف المصطنع بين الناس، سواء في التجارة أو في اليوميات. فيها أسئلة دائمة عن الصحة والحياة والأهل والأصدقاء. والأهم أن فيها ابتسامات حقيقية.

في شارع فوش، قبل السبعينيات، عندما كان وسط بيروت شعبياً ويشبه المدينة في ذلك الوقت كان يمكن للمارّ بالقرب من مطعم السوسي القديم أو للناظر من مبنى بلدية بيروت أن يشاهد كيف كانت الناس تضع صحون الفول والحمص مع ما يرافقها من خبز ونعنع وبصل أبيض فوق الطاولات. وهناك من كان يفترشها فوق صناديق السيارات ومحركاتها، أو حتى على الرصيف فوق صفحات الجرائد القديمة ليسرق لقمةً سريعة في وسط نهارات بيروت المزدحمة.

كان هذا، على ما يروي الآباء، مشهداً طبيعياً وقتها تتقاسمه طبقات اجتماعية مختلفة ولم يكن مدعاة غرابة كما يفكّر بعض مستثمري الوسط اليوم. كان "أبو رخوصة" حقيقياً يشبه الناس العاديين. غير أن الحرب الأهلية وما سبقها من أحداث دفعت بغالبية هذه المصالح إلى خارج الوسط الذي صار لاحقاً ساحةً من ساحات الحرب.

مطعم السوسي كان من بين الذين تركوا الوسط. انتقل إلى ذلك الزاروب الضيّق في منطقة طلعة شحادة، غير أنه ما زال يحافظ على تلك الخاصية التي زرعها الجد المؤسس، وأورثها لابنه، وإلى الأحفاد من بعده.

وإذا تحدثنا مع أهل المنطقة التي يقع فيها مطعم السوسي أو المناطق المجاورة لها، سنكتشف أن العلاقة الطيبة لصاحبي المطعم، أحمد السوسي وراجي الكبي (ابن عمّته)، تحفظ الكثير ممّا راكمه الجدّ المؤسس في الصحون.. وفي الناس.

صحيح أن شبكة "سي إن إن" صنّفت المطعم في وقت سابق كأفضل مكان يقدّم وجبة الإفطار في العالم. مع ذلك فإن "سي إن إن" وغيرها من الشبكات لا يعرفون كل شيء. وحدهم أهل المنطقة يعرفون.

اقرأ أيضاً:  فلافل أبو نبيل
دلالات
المساهمون