يقف ناصر جابر أمام شاشة ضخمة لمؤشر نازداك لبورصة نيويورك في ساحة "تايمز سكوير" الشهيرة، منفعلا مما يراه مكتوباً على الشاشة الضخمة: "مطبخ المهاجرين قدم مليون وجبة للمحتاجين في نيويورك". يظهر الفيديو الذي يبث على الشاشة بعض اللقطات لجابر وزملائه وهم يعدون وجبات طعام. في أكتوبر الماضي أسس ناصر شركة "مطبخ المهاجرين" مع زميلين سابقين من أحد المطاعم الفاخرة في نيويورك التي عمل فيها نادلا. كانت فكرة الشركة تقديم وجبات طعام كشركة تموين مع التركيز على ضمان عمل وتدريب كريم للمهاجرين بمن فيهم "غير الشرعيين" في الوقت الذي تقدم فيه أطعمة من ثقافات مختلفة عربية وأميركية لاتينية وغيرها. كان أحد الأهداف أن تعكس تلك الوجبات كذلك غنى نيويورك وثقافات المهاجرين المتنوعة في المدينة وتقدمها بأسعار معقولة وقيمة غذائية جيدة.
بعد أشهر قليلة من تأسيس الشركة ضرب فيروس كورونا نيويورك لتصبح واحدة من بؤر انتشار الفيروس في العالم. وجد أصحاب الشركة الفتية أنفسهم أمام تحديات كبيرة سرعان ما تمكنوا من تقويضها لتصبح قصتهم قصة نجاح تتجاوز دفع أجور عمل عادلة وتدريب المهاجرين في مجال التغذية والطبخ وتنجح في إطعام الآلاف من الفقراء في نيويورك وخارجها، في فلسطين ولبنان، مع رغبة بالتوسع، مقدمة وجبات ذات قيمة غذائية وجودة.
لم ينحدر ناصر جابر، ابن فلسطين المحتلة، من عائلة غنية كما يقول في مقابلة خاصة مع "العربي الجديد" في نيويورك. "لقد جئت إلى الولايات المتحدة قبل حوالي عشرين عاما بمنحة لدراسة الاقتصاد". ويصف ذلك الخروج من فلسطين بأنه كان كتذكرة عمل لأن الأوضاع تحت الاحتلال والفقر لم تجعله يرى مستقبلا له فيها،على الأقل على المدى القصير. ولم تغط المنحة التي حصل عليها إلا القسط الجامعي، لكنه لم يستطع أن يجمع ما يكفي من المال لتغطية تكاليف المعيشة. واضطر لترك الجامعة وسكن في إحدى المناطق الفقيرة في منطقة برونكس بمدينة نيويورك محاولا كسب بعض المال ليعيل نفسه.
مثل الكثير من المهاجرين كان العمل في المطاعم نادلاً أو مساعداً في المطبخ طريقا يساعده على كسب العيش، لكنه لا يضمن حياة كريمة. وسرعان ما اكتشف أن عددا لا بأس به من تلك المطاعم يستغل العمال والعاملات بأبشع الطرق، وخاصة المهاجرين بدون أوراق رسمية. ويتضمن الاستغلال ساعات عمل طويلة، وأجراً متدنياً وممن دون توفير أدنى الحقوق كتأمين صحي واجتماعي وغيرها. لكن العمل في تلك الأماكن فتح عينيه على عوالم ما كان ليعرف قسوتها ربما لو لم يخض تلك التجربة بنفسه. إذا ليس صدفة أن تركز شركتهم، (ينحدر زملاؤه من أصول مهاجرة أيضاً) على التدريب والأجر الكريم وجودة التغذية.
يقول ناصر "اليوم عندنا قرابة مئة شخص يعملون معنا وعدد لا بأس به منهم بدون أوراق وندفع لهم أعلى من الحد الأدنى من الأجر، إضافة إلى مكتسبات أخرى." كان ناصر متعاقدا مع إحدى المهرجانات الأدبية لتحضير قرابة ألف وجبة. ثم ألغي المهرجان بسبب انتشار كورونا لكن الوجبات كانت شبه حاضرة. قرر هو وشركاؤه التبرع بتلك الوجبات للمستشفيات والعاملين في المجال الصحي. وتطورت الأمور بسرعة من التعاون مع برامج أخرى لجمع التبرعات إلى الحصول على عقد من الحكومة الفيدرالية كجزء من برامج الإغاثة. والآن يقدم "مطبخ المهاجرين" قرابة 10 آلاف وجبة يوميا للمحتاجين من النيويوركيين.
لم تكن حياة جابر مكللة بالنجاحات دائما أو سهلة. فقد كان لفترات من حياته من دون سكن كما عانى من الاكتئاب والاضطراب الثنائي والديون، لكنه عاد ليقف على رجليه وكان للطعام دور مهم في حياته، كما يقول. "إن الطعام أكثر من مجرد غذاء يمكن أن يبقينا على قيد الحياة، بل أرخص شيء يمكن استخدامه كسلاح وهو في الوقت نفسه أرخص شيء يمكن أن يساعد الناس على الخروج من الفقر." ليس صدفة إذا أن يتشارك مع مؤسسة بريطانية ويبدأ بتمويل أغذية بجودة عالية لمئات المحتاجين في لبنان وفلسطين. وعن فلسطين يقول "لقد أوقفت الولايات المتحدة دعمها الإنساني لأحد المستشفيات المقدسية عقابا للفلسطينيين. وقلت لنفسي لقد تمكنا من إطعام الآلاف في نيويورك تحت ظروف كورونا الصعبة وسنتمكن من ذلك في فلسطين وحصلنا على دعم لتقديم وجبات غذائية لكل مرضى المستشفى الذي أوقفت الولايات المتحدة دعمها له. من الضروري بالنسبة لي أن تحتوي الوجبات على أطعمة يشتهي الناس أكلها". وعن معنى الطعام بالنسبة له يقول "كان الطعام بالنسبة لي بمثابة منقذ وأريد أن أتمكن من الاستمرار في عمل ذلك. وتقديم وجبات مجانية ذات قيمة غذائية عالية للفقراء في أماكن أخرى كاليمن وغيرها".
يشير ناصر جابر إلى ضرورة الحديث وبشكل صريح عن تابو المشاكل النفسية ويؤكد ضرورة خلق توعية أكثر وخاصة في عالمنا العربي حول تلك المواضيع وعدم الخجل من الحديث عنها. ويرى أن تقديم الغذاء بجودة مقبولة لا يقل أهمية عن ضرورة حصول الجميع على علاج صحي ونفسي. يتذكر بمرارة كيف أن والده لم يحصل على العلاج الملائم لوضعه الصحي بسبب فقر عائلته وظروف الاحتلال. "الطعام أخذني من اللاشيء وأعطاني منصة عالمية ومكنني من مساعدة الناس في نيويورك وخارجها. لم أتوقع أبدا في حياتي أن تكتب مقالات عنا في صحف عالمية أميركية" تحاول الشركة تطوير طرق مبتكرة للاستمرارية، بما فيها تشجيع الزبائن على شراء وجبة والتبرع في المقابل بوجبة أخرى للفقراء، ويبدو أن هذا النموذج يلقى نجاحا ويساعد على المدى البعيد من أجل الاستمرارية.