كان مشروع مطاع صفدي الروائي يقوم على كتابة متتالية روائية دمشقية تحكي جيله وتحمل عنواناً عاماً يقول معاني دمشق: "مدينة الأنهر السبعة". لكنه كتب ما عدّه جزءها الأول، جيل القدر، ثم جزءها الثاني، ثائر محترف. ورغم أنه ملأ صفحات لا تحصى من الجزء الثالث الذي كان سيحمل عنوان المجموعة العام، إلا أنه توقف بعد ذلك عن الاستمرار في الكتابة الروائية، مكرساً نفسه للكتابة الفكرية السياسية أو الفلسفية.
ما الذي حال دون مطاع صفدي ومتابعة الكتابة الروائية جنباً إلى جنب مع الكتابات الفكرية؟ سؤال يحيل بالضرورة إلى حالة مشابهة في التاريخ الأدبي، على اختلاف كبير في الظروف والأسباب، هي حالة جان بول سارتر الذي كتب روايته الأولى "الغثيان" ثم باشر الرواية الثانية "دروب الحرية" فكتب أجزاءها الثلاثة الأولى "سن الرشد"، و"وقف التنفيذ"، و"الحزن العميق"، ولم يكتب جزءها الرابع المعلن "الفرصة الأخيرة"، متوقفاً بعد ذلك نهائياً عن الكتابة الروائية.
سوى أن الشبه بين الحالتين شكلي محض، إذ يتوقف عند ظاهر الأمور من دون أن يتعداها. صحيح أن سارتر اكتسب صفة الروائي ما إن نشر روايته الأولى "الغثيان"، لكن هناك أكثر من سبب يدعو إلى الربط بين وقوف مشروعه الروائي وتعثر مشروعه الفلسفي خصوصاً عند المسألة الأخلاقية التي تجاوزها إلى "نقد العقل الجدلي" إذ لم ينشر شيئاً مما كتبه حولها في حياته بل نشرت مسودات ما كتبه في كتاب نشر بعد وفاته عام 1983 وحمل عنوان: "دفاتر من أجل أخلاق ما".
اقــرأ أيضاً
لم يكن ذلك حال مطاع صفدي الذي لم يُعترف له بهذه الصفة، فكان أن سارت شهرته أستاذاً ومثقفاً وفيلسوفاً في الوقت الذي أهملت فيه صفته روائياً مثلما أهملت كذلك رواياته أو أسيء اعتبارها في معظم الدراسات النقدية أو تلك التي تؤرخ للرواية السورية.
ربما تتيح لنا إعادة قراءة الروايتيْن اللتين كتبهما ونشرهما في مطلع ستينيات القرن الماضي، العثور على ما يمكن افتراضه سبب هذا الوقوف أو سبب انقطاع هذا الحلم/المشروع، النهضة، الذي يؤلف في حقيقة الأمر قوام مسيرته الكتابية مع الأخذ بعين الاعتبار الكيفية التي قرئتا بها عند صدورهما.
مشهدان يؤلفان دليلاً ناطقاً. أولهما مفصّل في جيل القدر وثانيهما مختصر في ثائر محترف:
"ولدنا في الجحيم، وينبغي أن تستمر حياتنا فيه. كل جنة نلقى إليها إنما هي جنة كاذبة"، "إننا نتحدث كما لو كنا مشوهين، كأن عجزاً أو تشويهاً يقع في عضو منا.. في جهة ما من وجودنا".
بدت هذه الصرخات التي أطلقها بطل روائي قبل ستة وخمسين عاماً لكثير ممن قرأها، مبالغة صارخة أقحمت على مجتمع لا تعتريه أية عوارض من تلك التي توحي بها، في الوقت الذي كان هناك "مشروع قومي" قيد التحقيق، و"مستقبل" أكثر من واعد رغم المصاعب والعقبات.
لكنها مع ذلك كانت تتلو وصفاً لصورة كاريكاتيرية رسمها بطل آخر في الرواية، كان بوسع قارئها ألا يرى فيها تلك المبالغة: "كانت الصورة تمثل عدداً كبيراً من الوجوه المضخمة ملامحها، بينما تضاءلت أجسادها دون أن تفقد حركتها، وكانت حركتها عبارة عن زوبعة يطلقها من زاوية اللوحة وجه ساخر، أشبه شيء بوجه الشيطان. وتأملت هذه الوجوه العجيبة ذات الخطوط المعبرة عن نماذج وجودها، فعرفت منها وجه حسان القديم ووجهي أنا، وهاني وهيفاء، وليلى وطائفة كبرى من الأشخاص الذين أعرفهم ولا أعرفهم. كانوا جميعاً تلفهم زوبعة تنطلق من نَفَسِ ذلك الشيطان. "وقال حسان: أرأيت.. إنهم أنت وأنا.. والكل.. إنهم الجيل، تعبث بهم زوبعة من نفخة شيطان.. شيطان لا يمكن تحديد هويته بعد؛ إنه يحمل أغمض اسم في سفر الإنسانية: القدر. وقلت بخفوت: تعني أنهم.. جيل القدر".
اقــرأ أيضاً
وعلى أن هذه الصورة شبه الناطقة، كانت، وهي تحاول اقتراح أكثر من دلالة لها، قد دفعت أحد ساكنيها إلى تجسيد بعض هذه الدلالات في كلمات، إلا أنها مع ذلك، وكما يبدو، بقيت غائبة كلياً عن أنظار قراء الرواية الذين كانوا يقرؤونها لا على هدي دلالاتها الكامنة في نصها، بقدر ما كانوا يفعلون على هدي ما أراد نقاد الرواية آنئذ أن يفهموه، ولا سيما منهم ممن حفظوا عن ظهر قلب كتباً كانت رائجة في تلك الحقبة من نوع: كيف تكتب الرواية؟ أو الذين قرأوا شذرات صحافية عن الفلسفة الوجودية في الصحف، ولا سيما تلك التي كانت تلاحق ما كانت تكتبه صحف اليمين الفرنسي عن سارتر وسيمون دو بوفوار مما تعتبره فضائح الوجوديين! عبّر الأوائل عن رفضهم لهذه الرواية، ما دامت لم تتبع القواعد المنصوص عليها في كتب فن كتابة الرواية كما فهموه، رافضين بالتالي إضفاء صفة الرواية عليها، في حين ذهب آخرون ممن كانوا يرطنون بالمفاهيم الماركسية في أسوأ ترجماتها العربية إلى اعتبارها رواية "فلسفية" ــ على أن تفهم هذه الصفة هنا كتقييم سلبي ــ تريد "إثراء الأيديولوجية القومية بمفاهيم الوجودية السارترية"؛ وذهب أحدهم إلى درجة اتهام الكاتب بسرقة فكرة مسرحية "الأيدي القذرة" لسارتر، ومن ثم أجاز لنفسه نزع صفة الرواية عنها.
يكاد هذا المشهد في "جيل القدر" أن يكون تمهيداً أولياً للمشهد الأخير الذي تختتم به رواية "ثائر محترف" التي تجري أحداثها خلال الأزمة اللبنانية عام 1958، أي مشهد الكسوف العام الذي يخيم على فضاء المدينة كلها كما لو أنه يؤكد الجحيم الذي ولد وعاش ولا يزال يعيش فيه أبطال الروايتين.
اقــرأ أيضاً
ذلك أن جيل القدر الذي بدا في عيون البعض وكأنه جيل المعجزات، لم يكن إلا جيل ما هو مقدر سلفاً ومحدد سلفاً أي الجيل المكبل بالشروط الاجتماعية والتاريخية التي ولد فيها وعاش. جيل يُسرق منه الفعل كلما حاوله، ويسرق منه مشروعه كلما باشره.
كان هذان المشهدان تشخيصاً دقيقاً لوضع لم تكن مظاهره تنبئ عن حقيقته الأعمق: الجيل العاجز عن إنجاز الفعل. هذا التشخيص الذي قد يفسر سبب التوقف عن الكتابة الروائية في فضاء بلغ حدوده القصوى وكان لا بد من تغيير الوسيلة، يكاد يكون استشرافاً لما سيستمر في الحياة العربية ولما سيبلغ الذروة مع فعل الثورة التي حاولتها الأجيال الجديدة في البلدان العربية وآلت إلى ما آلت إليه ولا سيما في سورية. استشرافاً لسرقة الفعل في تجلياته المختلفة: مشروع اغتيال الديكتاتور في الرواية وثورة الحرية والكرامة في الواقع اليوم.
صرخة نبيل في رواية جيل القدر عام 1960 هي صرخة مطاع صفدي في فضاء الثورة السورية مع نهاية عام 2014 حين تحدث طويلاً عن النهضة المغدورة.
سوى أن الشبه بين الحالتين شكلي محض، إذ يتوقف عند ظاهر الأمور من دون أن يتعداها. صحيح أن سارتر اكتسب صفة الروائي ما إن نشر روايته الأولى "الغثيان"، لكن هناك أكثر من سبب يدعو إلى الربط بين وقوف مشروعه الروائي وتعثر مشروعه الفلسفي خصوصاً عند المسألة الأخلاقية التي تجاوزها إلى "نقد العقل الجدلي" إذ لم ينشر شيئاً مما كتبه حولها في حياته بل نشرت مسودات ما كتبه في كتاب نشر بعد وفاته عام 1983 وحمل عنوان: "دفاتر من أجل أخلاق ما".
لم يكن ذلك حال مطاع صفدي الذي لم يُعترف له بهذه الصفة، فكان أن سارت شهرته أستاذاً ومثقفاً وفيلسوفاً في الوقت الذي أهملت فيه صفته روائياً مثلما أهملت كذلك رواياته أو أسيء اعتبارها في معظم الدراسات النقدية أو تلك التي تؤرخ للرواية السورية.
مشهدان يؤلفان دليلاً ناطقاً. أولهما مفصّل في جيل القدر وثانيهما مختصر في ثائر محترف:
"ولدنا في الجحيم، وينبغي أن تستمر حياتنا فيه. كل جنة نلقى إليها إنما هي جنة كاذبة"، "إننا نتحدث كما لو كنا مشوهين، كأن عجزاً أو تشويهاً يقع في عضو منا.. في جهة ما من وجودنا".
بدت هذه الصرخات التي أطلقها بطل روائي قبل ستة وخمسين عاماً لكثير ممن قرأها، مبالغة صارخة أقحمت على مجتمع لا تعتريه أية عوارض من تلك التي توحي بها، في الوقت الذي كان هناك "مشروع قومي" قيد التحقيق، و"مستقبل" أكثر من واعد رغم المصاعب والعقبات.
لكنها مع ذلك كانت تتلو وصفاً لصورة كاريكاتيرية رسمها بطل آخر في الرواية، كان بوسع قارئها ألا يرى فيها تلك المبالغة: "كانت الصورة تمثل عدداً كبيراً من الوجوه المضخمة ملامحها، بينما تضاءلت أجسادها دون أن تفقد حركتها، وكانت حركتها عبارة عن زوبعة يطلقها من زاوية اللوحة وجه ساخر، أشبه شيء بوجه الشيطان. وتأملت هذه الوجوه العجيبة ذات الخطوط المعبرة عن نماذج وجودها، فعرفت منها وجه حسان القديم ووجهي أنا، وهاني وهيفاء، وليلى وطائفة كبرى من الأشخاص الذين أعرفهم ولا أعرفهم. كانوا جميعاً تلفهم زوبعة تنطلق من نَفَسِ ذلك الشيطان. "وقال حسان: أرأيت.. إنهم أنت وأنا.. والكل.. إنهم الجيل، تعبث بهم زوبعة من نفخة شيطان.. شيطان لا يمكن تحديد هويته بعد؛ إنه يحمل أغمض اسم في سفر الإنسانية: القدر. وقلت بخفوت: تعني أنهم.. جيل القدر".
يكاد هذا المشهد في "جيل القدر" أن يكون تمهيداً أولياً للمشهد الأخير الذي تختتم به رواية "ثائر محترف" التي تجري أحداثها خلال الأزمة اللبنانية عام 1958، أي مشهد الكسوف العام الذي يخيم على فضاء المدينة كلها كما لو أنه يؤكد الجحيم الذي ولد وعاش ولا يزال يعيش فيه أبطال الروايتين.
كان هذان المشهدان تشخيصاً دقيقاً لوضع لم تكن مظاهره تنبئ عن حقيقته الأعمق: الجيل العاجز عن إنجاز الفعل. هذا التشخيص الذي قد يفسر سبب التوقف عن الكتابة الروائية في فضاء بلغ حدوده القصوى وكان لا بد من تغيير الوسيلة، يكاد يكون استشرافاً لما سيستمر في الحياة العربية ولما سيبلغ الذروة مع فعل الثورة التي حاولتها الأجيال الجديدة في البلدان العربية وآلت إلى ما آلت إليه ولا سيما في سورية. استشرافاً لسرقة الفعل في تجلياته المختلفة: مشروع اغتيال الديكتاتور في الرواية وثورة الحرية والكرامة في الواقع اليوم.
صرخة نبيل في رواية جيل القدر عام 1960 هي صرخة مطاع صفدي في فضاء الثورة السورية مع نهاية عام 2014 حين تحدث طويلاً عن النهضة المغدورة.