نبدأ من التغريدة التي أطلقتها على "تويتر" أخيراً عن موضوع الاعتقالات (التي شنّتها السلطات السعودية ضد دعاة ورجال دين وإعلاميين). قلتِ إن حملة الاعتقالات هي رد النظام على فشله في معركته مع قطر، لم تركع قطر والآن يريد أن يركع الشعب. ما هي أهداف هذه الاعتقالات؟
أعتقد أنه لا يوجد تصريح رسمي واعتراف بالاعتقالات. ولكن كل ما نستطيع أن نقوم به هو تكهنات. والتكهنات في نظري، خصوصاً بالنظر إلى هوية المعتقلين واتجاهاتهم الفكرية والسياسية، تدل على أن السلطات تريد بعث رسالة إلى قطر بعد فشلها في تركيع الدوحة طيلة هذه الأشهر ضدها، فحاولت السعودية من خلال هذه الاعتقالات أن تنال من قطر لأنها قد تعتبر أن الإسلاميين في السعودية محسوبون على قطر.
وأنا أقول إن الإسلاميين في السعودية بدأوا يظهرون منذ الستينات والسبعينات، فمثلاً الشيخ سلمان العودة كان له تاريخ حافل كداعية إسلامي. في عام 1990 دخل السجن لأنه اعترض على سياسة الدولة السعودية، وفي ذلك الوقت قطر لم تكن موجودة بهذا الزخم. لذلك أرادت السعودية أن تعطي رسالة للسعوديين مفادها أن مصيركم سيكون كمصير هؤلاء الدعاة الذين سُجنوا إذا استمررتم في عدم دعم النظام السعودي في حملته ضد أي دولة. الآن هو دور قطر، ولكن ربما تكون المعركة المقبلة ضد دولة أخرى لأن النظام السعودي في وضعه الداخلي أصابه نوع من الطيش. لم يعد يمارس العلاقات الدولية ويفكر بحل الأزمات بالطرق الدبلوماسية منذ تولي الملك سلمان للعرش، وهو بصراحة غير قادر على ضبط الأمور يومياً، وأوكل المهمة إلى ابنه، ونجد أن السياسة الخارجية السعودية يتراجع مستواها، ومواقفها الإقليمية أصبحت بلا هدف. يعني الهدف هو البقاء في الحكم والهدف هو أن تصمت جميع الأصوات في الداخل السعودي وفي الخارج. أعتقد أن العلاقة بين السعودية وقطر خلال هذه الفترة، أي فترة حكم محمد بن سلمان، هي علاقة حرجة لأن السعودية بملكها المقبل لا تريد أن يوجد أي صوت غير صوتها. تريد احتكاراً تاماً للإعلام.
لكنّ بين المعتقلين من هم غير إسلاميين، فهل يوجه ذلك الرسالة ذاتها؟
نعم. لا يمكن أن نقول إن جميع الدعاة الإسلاميين محسوبون على "الإخوان المسلمين". هذا غير صحيح. ولكن هناك بعض الشخصيات التي تنتقد، مثلاً عبد الله المالكي. هو شاب لا يتجاوز عمره 45 سنة. اختفى وأُدخل السجن. لماذا؟ هو يكتب فقط مقالات فقهية وإعادة صياغة الخطاب الإسلامي، ولكنه غير محسوب على أي حزب. لكن المشكلة أن النظام لم يعد يستطيع أن يفرق بين من هو عدوه ومن هو صديقه. يريد إما أن تكون مواليا مائة في المائة أو لا تكون. تكون في السجن.
كيف تفهمين توقيت الاعتقالات السعودية في هذه الفترة؟
السعودية، من خلال حملة الاعتقالات، أرادت أن تعطي رسالة للداخل السعودي أن في هذه الفترة الحرجة، السعودية تخوض حربين، حربا إعلامية مع قطر، وحربا حقيقية على الأرض في اليمن. وفي هذا الوضع لم تستطع أن تنجح في هاتين الحربين. يعني حرب اليمن مستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات ونحن في المكان نفسه. لم تستطع أن تلغي الحوثيين في اليمن أو تنتصر عليهم، بل العكس صواريخ الحوثيين طاولت داخل العمق السعودي. أما المعركة مع قطر، فبعد ثلاثة أشهر لم نتجاوز الاتهامات والقصائد البذيئة والتهديد والوعيد.
يعني حتى هذه اللحظة لم ير محمد بن سلمان النجاح الذي يطمح له سياسيا. أما اقتصادياً، عندما بدأ فترة حكمه في 2015 و2016، خرج علينا برؤى خيالية، رؤية 2030 ومشروع التغيير الاجتماعي ومسألة الترفيه الذي سيرفه السعوديين فيه. كذلك قرر عندها أنه يجب على الدولة السعودية أن تتقلص في مجال الخدمات، ورفع تغطية أسعار الطاقة والمياه والكهرباء وأنه لن يكون هناك مجال للتوظيف في القطاع العام.
منذ أكثر من شهر تقريباً، أعاد صياغة كل هذه الأمور وقال إننا سنؤجل بعض التطلّعات المستقبلية ولم يعطوا أسباباً. ولذلك حتى الخطة الاقتصادية التي كلّفت الملايين من أجل أن يعلنها على الملأ بدأ يتراجع عنها. أعطيك مثلاً اقتصادياً مهماً، وهو الإعلان أن شركة أرامكو، سيكون هناك خصخصة لخمسة في المائة من أسهمها. وكان الموعد سبتمبر/أيلول الحالي. ولكن حتى هذه اللحظة لم يحصل ذلك، وقالوا إنهم سيدرسون الموضوع. ويؤجلون.
لذلك سياسياً لم ينجح (بن سلمان)، واقتصادياً لم ينجح. في حروبه الإقليمية في اليمن والإعلامية مع قطر لم ينجح. ولذلك هو وحيد، يقف وحيداً. وكذلك ومع تحضير نفسه ليكون الملك المقبل، لم يضمن صمت جميع الأمراء، وهذه مشكلة لا يستطيع أن يتنبأ ما ستكون ردود فعلهم إذا هو أصبح الملك بعد تنازل أو وفاة والده. هل سيبقى محصناً بعد موت الملك سلمان؟ ماذا سيكون موقف الأمراء الآخرين الذين يمتلكون سلاحاً على الأرض، مثل متعب بن عبد الله رئيس الحرس الوطني وهو برتبة وزير. ما سيكون موقفه؟ هل سيحمي القصر؟ أم أنه سينافسه على الحكم؟ كل هذه أسئلة تدور في مخيلة محمد بن سلمان، لذلك هو في حالة طيش، والمصيبة وقعت في العشرين شخصاً الذين اعتقلهم منذ أسبوع تقريباً.
كيف ترين مستقبل السعودية في ظل حكم محمد بن سلمان؟
أنا لا أرى أي نقاط إيجابية. أحاول أن أجد نقطة إيجابية، مثلاً خذ تمكين المرأة، فهو أعلن أنه سيُمكّن المرأة، وعيّن 30 سيدة في مجلس الشورى. وكذلك حاول أن يفتح مجال التوظيف للمرأة، ولكن كلها كانت إعلانات. نعم هناك بعض التدرّج في إيجاد وظائف للمرأة خصوصاً بوجود الإنترنت إذ تستطيع المرأة السعودية أن تتجاوب مع متطلبات العمل إذا كانت تعمل من المنزل أو في طريقة ما. ولكن حتى هذه اللحظة لا يوجد نمو اقتصادي. ربما يُفتح المجال للمرأة أن تعمل. لكن أين هي الوظائف؟ لدينا مشكلة البطالة. الشبان والنساء يعانون منها. ولذلك بعد البهرجة الإعلامية التي رافقت وصول محمد بن سلمان إلى دفة الحكم، أستطيع أن أجزم أنه لا يوجد إنجاز عظيم حتى هذه اللحظة.
من ناحية العائلة الحاكمة، محمد بن نايف لا يزال حتى الآن خارج الإطار، خارج الصورة، صامتاً ولا نعرف اتجاهه. برأيك هل يمكن أن يؤثر هذا الأمر على الخطوة المقبلة؟
آخر صورة له كانت مفبركة. تحت البهرجة الإعلامية السعودية وجدنا محمد بن نايف يقف بعد أن فقد عمله وطردوه من الحكم. بعد أن طُرد وأتى محمد الصغير ليقبل يده ورجله، وبعد هذه الصورة اختفى محمد بن نايف. صدرت بعض التفاصيل في صحيفة "نيويورك تايمز" من مصادر موثوقة في "سي آي إيه" تقول إن محمد بن نايف في الإقامة الجبرية، وهو لم ينفِ أنه في الإقامة الجبرية. وكذلك هو لم يظهر للعلن ليقول أنا موجود وأتجول في البلد بكل حرية. لذلك هنالك تعتيم على هؤلاء الأمراء الذين خسروا وظائفهم.
ولكن برأيك في حال وفاة الملك سلمان، هل يمكن أن يكون منافساً على العرش أو مركز انقسام ضمن العائلة المالكة؟ في وجه محمد بن سلمان؟
محمد بن نايف شخصية لها خبرة في العمل الاستخباراتي وفي السجون والاعتقالات. وهو القبضة الحديدية خلال حكم والده نايف. وكذلك استمر حتى ثلاثة أشهر سابقة. ولذلك كانت نظريتي أنه هو الدولة العميقة في السعودية. ولكن خروجه بهذه المسرحية، ربما هناك صفقة، بأن الملك سلمان حاول أن يعطيه بعض التعويضات والترتيبات التي تجعله يصمت في هذه اللحظة. ولكن هناك نقطة مهمة يجب أن ننتبه لها أن الأمراء السعوديين كلهم في هذا الوضع العربي والغليان العربي لا يريدون أن يهزوا البيت السعودي. لأنهم يعرفون أن أي ثغرة تظهر للشعب وللعلن والعالم.
بالنسبة للأمراء طالما أن مخصصاتهم موجودة ولم تتأثر، يقبلون بعدم لعب دور سياسي. هناك منهم من يحصل على أكثر من 90 ألف ريال في الشهر ما عدا القدرة على الاستثمار، أي يوجد مجال مفتوح لهم ليمارسوا الاقتصاد والتجارة. ولكن يعلمون أن الوضع مهزوز في المنطقة وأن أي ثغرة وخلاف بين أعضاء الأسرة إن خرج للعلن سيؤدي لانهيار الأسرة كاملة، لذلك هم ينتظرون ويلتزمون الصمت. وبعضهم لا يتكلم مع البعض الآخر، حسب من يعرف بأمور الأسرة. ولكن هذا ليس مهماً، الخلاف في الأسرة ومن يحكم السعودية، محمد بن نايف أم محمد بن سلمان. برأيي لا يهم من يحكم السعودية، فكلهم من طينة واحدة، ولن يتغير الوضع. لا يوجد بين هؤلاء الأمراء أي شخص يفكر بإصلاح سياسي ويريد أن يستشير المجتمع في أي قرار اقتصادي، سياسي أو اجتماعي. كلهم يستأثرون بالسلطة ويحاولون أن يبقوا على كرسي الحكم وأن يستمر القمع والاعتقال.
يأخذنا هذا الأمر إلى وضع المعارضة السعودية. ما هو دورها في ظل الانقسام الحالي؟ هل هناك تصورات لهيئة معارضة مستقبلية؟
برأيي المعارضة السعودية مفككة كتفكك البلد. هناك اتجاهات وتيارات مختلفة لا تتفق مع بعضها، وربما لم تقتنع هذه المعارضات المشتتة بأن الوقت قد حان لتوحيد صفوفها. هناك محاولات قائمة وهناك تجمّع للمعارضة ربما ينجح. ولكن أعتقد بصراحة أنه حتى هذه اللحظة، بسبب الضغوط والقمع الذي يحصل في الداخل، لا توجد معارضة واضحة وصريحة إلا في الخارج. هناك أصوات ربما لا تريد أن تظهر في هذه اللحظة وتحاول أن تبقى في الخفاء لتحمي نفسها. ولذلك يجب أن ننتبه إلى أن القمع في السعودية هو قمع مستشر، وليس من السهل على أشخاص أن ينتقدوا عبر "تويتر"، هم يُقمعون ويدخلون السجن. إن دعوا للصلح مع دولة أخرى، دخلوا السجن كما حصل لسلمان العودة. فما بالك أن تنتشر معارضة عندنا؟ وكذلك هناك الوعي الاجتماعي والخبرة. فهذا المجتمع لم يعتد كغيره من المجتمعات العربية أن يخرج في الشوارع للحراك السلمي. وهناك دور المؤسسة الدينية التي تقمع الجميع باسم الدين وتقول لهم إن اعترضتم في "تويتر" على ولي الأمر فأنتم ترتكبون جريمة بحق الله والكتب السماوية.
هل تشيرين هنا لحراك 15 سبتمبر؟
نعم خرج المفتي عن صمته وقال للجميع إن هذه فتنة. بالنسبة لهم أي إنسان ينتقد السلطة، وليس بالضرورة يريد تغيير الحكم أو قلب نظام الحكم، بل ينتقد ليس شخص الملك أو شخص ولي العهد، بل سياسة ولي العهد واقتصاد ولي العهد، هذا يُعتبر فتنة وخروجاً على ولي الأمر. في ظل هذا الضغط الاجتماعي والسياسي والديني في مجتمع محافظ لا يزال يحترم رجال الدين هؤلاء، من الصعب أن نتكلم هذه اللحظة عن معارضة سعودية كبيرة، على الرغم من أن هناك شخصيات جازفت ودخلت السجون وخرجت من البلد وأسست معارضات وهي تحاول. ولكن أعتقد أن الاتجاهات مختلفة. وكذلك هناك الموضوع الطائفي الذي لا يجعل التقارب بين السنّة والشيعة سهلاً في السعودية، وهذا أمر مهم. أنا لا أحب أن أتكلم بموضوع سنّي وشيعي، ولكنّ لديهم حراكا ويُقمعون في مناطقهم. أخيراً دخلت الجرافات السعودية إلى بيوتهم وهدمتها، ولم يكن هناك تضامن من قِبل الأكثرية. ولذلك نحن بحاجة إلى فترة حتى ننشئ خطاباً قومياً سعودياً ينهض بالبلد، وينفي عن المعارضة كونها جريمة بحق الدين وحق الإسلام إذ هو حق للإنسان أن يكون عنده صوت معارض للسلطة، وتحميه السلطة عبر القوانين.
ما هي رؤيتك لأهداف حصار قطر ورؤيتك للحل؟
موضوع العلاقة مع قطر شائك. أولاً السعودية ترفض أن تكون هناك جارة خليجية تخرج عن مسارها وعباءتها. قطر، وعلى الرغم من المصالحة التي حصلت عام 2014، لا تزال تُعتبر الطفل الجريء. والسعودية تنظر إلى قطر على أنها دولة صغيرة عندها غاز وعدد سكانها قليل. يعني هناك نظرة استعلائية إلى قطر. الحكم السعودي ولا أقول المجتمع السعودي، بل الحكم في السعودية ينظر بدونية إلى أمير قطر. وقد لاحظنا مدى الابتذال الذي حصل عندما أخرجوا الأنساب وقالوا إن تميما لا ينتمي إلى قبيلة بني تميم. يعني وصل التدني إلى حدّ التعرض إلى أنساب حكام قطر. هذا الموقف يجعل السعودية لا تقبل إلا بالعربي الذي يبقى تحت سيطرتها. تماماً كما يحصل في البحرين. يعني إذا كنت عربياً مصرياً أو فلسطينياً أو غيره، يجب أن تكون تحت إمرة السعودية، لأن السعودية عندها تضخّم الأنا على مستوى النظام الذي يعتبر أنه نظام يمثّل الإسلام والمسلمين وينطق باسم العرب والمسلمين. قطر لم تقبل بهذا.
وهناك نقطة مهمة، أن السعودية تريد احتكار الخطاب الإسلامي في العالم الإسلامي كله، خصوصاً بعد أن أصبح الأزهر هامشياً بصراحة منذ الستينات. فالسعودية اعتقدت أن لديها منبر الحرمين وأنها تتحكم بالمسلمين وتنطق عنهم باسم الإسلام في جميع دول العالم. قطر خرجت بقنوات "الجزيرة" وبعض البرامج كـ"الشريعة والحياة"، وأصبحت تنافس السعودية في الخطاب الإسلامي، خصوصاً أن الخطاب السعودي الإسلامي لا يليق بالشباب العربي. فعندما تقول له ليلاً ونهاراً ادع لولي الأمر بالسلامة، الشباب العربي لا يقبل بهذا. بينما قطر تعطي مجالاً للدعاة والإسلاميين الذين يتحدثون لغة ربما ينهض الشباب بسببها. وكذلك هذه المنافسة الدينية غير مقبولة من منطق النظام السعودي، وحتى المنافسة الإعلامية، السعودية تريد قناة "العربية" وأخواتها أن تحتكر الخطاب وأن تجعل الشباب العربي كما تريد هي. يريدون تكوين وعي عربي مسطح، فن ومكياج وعمليات تجميل. هذا هو الإعلام السعودي الموجّه للعالم العربي. تخرج علينا قنوات أخرى مموّلة من قطر تنافس السعودية في هذا الخطاب. لذلك المعركة مع قطر ليست معركة إسلاميين فقط أو معركة تميم ومحمد بن سلمان، بل هي معركة أكبر. لا تريد السعودية دولة مستقلة في الخليج.