الوضع السياسي والاقتصادي الصعب لبلده هو ما أوحى للجزائري مصطفى بن فضيل نصه المسرحي "وجهة نظر الموت" الذي صدر حديثاً عن دار نشر "أل دانت" الفرنسية وتقع أحداثه في مشرحة داخل مستشفى بلدة خيالية محاذية لمدينة ورقلة الجزائرية.
وفي هذا الفضاء "المتخم بالنهايات"، يعمل منذ عشر سنوات الشاب موسى محاطاً بخزائن ذات أدراج مبرّدة تعجّ بالجثث وبنقالات قديمة وملايات ملطخة بالدم أو الرماد ومروحة تعجز عن تلطيف الهواء وطرد الروائح الكريهة.
ولإلهاء نفسه خلال دوام عمله، يعمد موسى إلى إحصاء عدد الموتى الذين يتراكمون حوله قاصّاً على نفسه ما يشاهده يومياً من فظائع ومسجّلاً مونولوغاته بمسجّل لا يفارقه بغية إنجاز كتاب حول معيشه بمساعدة صديقه الشاعر عزيز، وهو شاب ثوري ينشط في فضح الجرائم وعمليات الفساد داخل البلدة على موقعه الإلكتروني، مما يعرّضه إلى متاعب وملاحقات قانونية.
ومن مونولوغات موسى الغزيرة تتّضح لنا بسرعة أسباب الوفيات في البلدة: الغيرة التي تدفع رجالاً إلى قتل نسائهم، التلوث من جراء المنصة النفطية المجاورة للبلدة، البؤس الذي يجبر بعض الأمهات على رمي أطفالهن الرُضّع في مكب النفايات، الانتحار لانسداد الأفق، إلى جانب عمليات الاغتيال المتفرقة.
ومن هذه المونولوغات يتبيّن لنا أيضاً أن موسى لم يختر طوعاً العمل في المشرحة بل حاول عبثاً، بعد نيله شهادة في حفر آبار النفط، العثور على عمل في مجال اختصاصه، ثم زاول فترة قصيرة مهنة الحراسة قبل أن يُطرد منها فور تلفّظه بكلمة "نقابة" أمام مديره. ولولا والده الذي كان يعمل قبله في المستشفى لبقي عاطلاً عن العمل.
وفي أحد الأيام، يتم نقل جثة متفحمة إلى المشرحة يتبين لموسى أنها جثة صديقه عزيز الذي أضرام النار في جسده في باحة قصر العدل بعدما حُكِم عليه بالسجن سنة كاملة بتهمة تشويه سمعة أحد المسؤولين.
حدثٌ يقود موسى إلى عملية تأمل طويلة في حياة "عزيز" يفهم في نهايتها سلوك صديقه الذي كان يعاني من حالة اكتئاب لعدم تمكنه بنضاله الطويل من تغيير وضع بلدته وفشله في إخراج أبنائها من سباتهم. بعبارة أخرى، "كان عزيز محروقاً قبل أن يضرم النار في جسده". أما لماذا النار؟ فلِكَيّ جراحه وتطهير نفسه و"رؤية جسده يحيا من جديد".
وتكمن قيمة هذا النص المسرحي الذي لجأ بن فضيل فيه إلى لغةٍ محكية ـ فجّة عند اللزوم ـ في حبكته المصنوعة بطريقة تجعل من عنصر التشويق عملية تصاعدية، كما تكمن في أبعاده المجازية الكثيرة. فكما أن غرفة الموتى استعارة للجزائر نفسها، تظهر البلدة الخيالية كاستعارة لمدينة ورقلة التي شهدت مؤخراً اضطرابات اجتماعية مع نزول العاطلين عن العمل إلى الشارع ومطالبتهم الحكومة الجزائرية فتح سوق العمل في حقول النفط المجاورة أمامهم.
وفي هذا السياق، تستحضر قصة عزيز من دون مواربة قصة الشاب الحقوقي العاطل عن العمل الذي أضرم النار في جسده داخل مكتب أحد المسؤولين في مدينة ورقلة، وقصص شبان كثر في الجزائر أقدموا على الفعل نفسه للسبب نفسه، من دون أن ننسى الشاب التونسي محمد بوعزيزي الذي أطلق- بحرق نفسه - شرارة الثورات العربية الأخيرة.
ومن ثَم، ترمز شخصية عزيز في هذا النص إلى عملية الخروج من الزمن "الفلكلوري" إلى الزمن السياسي، مهما كانت عاليةً كلفةُ هذا الخروج. ومن هذا المنطلق يأتي سعيها إلى فضح المسؤولين السياسيين الناشطين في نهب موارد الوطن وفساد موظفي الدولة وجور القضاة الذين يديرون محاكمات المتمردين على الوضع القائم "بسرعة الاحتقار"؛ ويحمون في المقابل مَن تتوجّب محاكمتهم.
ومن المنطلق نفسه يأتي في المسرحية نقد صمت الآباء في عالمنا العربي وخضوعهم لمبدأ القدرية، ونقد الشبّان المستعدين للاتجار بأي شيء لكسب المال، بما فيه الموت، ونقد الناس الذين يتظاهرون بالإيمان والتقوى بينما يعشش الخبث والنميمة في قلوبهم، إلى جانب نقد فلكلور السحر والشعوذة الذي ما زال فاعلا داخل المجتمع الجزائري، والمغاربي عموماً.
ولا يسلم موسى من نقد صديقه عزيز كونه شاهداً صامتاً في مشرحته على الجرائم التي تُرتكب بحق الأبرياء، ومنه يرمز إلى الفرد في مجتمعاتنا الذي يرى بعينيه ما يحصل معه وحوله ولا يحرّك ساكنا.
وفي مغادرة موسى المشرحة في نهاية المسرحية، دعوة واضحة إلى هذا الفرد بالنزول إلى الشارع وتحديد مصيره بنفسه.