14 نوفمبر 2024
مصر: وطن اللواءات والمذيعات
كثيراً ما اعتبرت، في خيالي، أن مصر، على الرغم من اتساعها جغرافيّاً، ما هي إلا عجوز مسدودة الأفق، وفقط هي متسعة وسعيدة للتجّار والضيوف واللصوص واللواءات والقتلة والطيور وسكّان الجبال والأطفال إلى ما قبل سن السادسة.
ملعب كبير لفقراء الدلتا كامل العدد ومخنوق، وأمامه البحر، قِبلة المشتاقين للسفر والهروب من طغيان كل شيء، ابتداء من الفرعون، حتى ضيق ذات اليد. أمس فقط، بعد حلّ اتحادات الطلبة في الجامعات، حرّموا على الطلبة السفر إلا لأداء الحج أو العمرة، ومن قبل، أغلقوا باب السفر إلى 14 دولة (هذا للعلم)، حتى الملاعب أغلقت، ولم تبق سوى ملاعب الجيش وبرج العرب المحاطة بالدبابات، على الرغم من قانون التظاهر والإرهاب وافتتاح سجون جديدة وحل الجمعيات والنوادي وتأميم المستشفيات، واعتبار روابط الألتراس إرهابية، حتى جاء الدور على النادي الأهلي، وحده مرتضى منصور وابنه ينالان ثقة الشعب ومحبته، وحدها أندية القضاء والقوات المسلحة والشرطة التي تنتشر في طول البلاد وعرضها حتى شواطئ النيل. واضح أنهم قرروا أن يحولوا البلاد إلى (عباسية واسعة) باتساع الوطن.
أما إذا عدنا إلى الصعيد، فأنت تعود إلى مأساة بحق، ولك أن تتخيل المأساة، ولكن، في رمضان، بفضل توفيق عكاشة ومسلسلات رمضان إلى الصباح، لن تكون هناك أية مشكلة، وخصوصاً في وجود غادة عبد الرازق.
حتى المحاجر لفقراء العمال، يكاد أن يؤممها أيضا اللواءات، وخبراء النظام الضالعون في البلد. سمعت من صديق أن عمال المحاجر الذين اشتروا غرف النوم في أيام حسني مبارك يبيعونها اليوم، وقد تكونت تجارة لذلك، في وقت تعرض فيه وظيفة محافظ على امرأة مصرية لأول مرة (علّني أكون من مخطئاً)، أكاد أقول من 7000 سنة، فتعرض على المذيعة منى الشاذلي، والمدهش أنها ترفضها، فكيف تترك ملايين رجال الأعمال، وتتوجه إلى مشكلات الصرف الصحي والبنية التحتية في القليوبية أو الجيزة، كي تحصل على حوافز الدرجة، أو متغير الدرجة، أو حافز المحليات التي لا تكفي أجرة الكوافير أو السائق أو ثمن الأهداب الصناعية التي تظلل على فدان كما يقول الشاعر، واعتبرها الراحل لويس عوض (ورمش عين الحبيب ضلّل على فدان) في ميزان الشعر بنصف الشعر العربي أو كله، ولم يضع لنا في هوامشه: حتى ولو كان الرمش صناعياً؟
نحن إذن أمام وطن مخطوف، ليس سياسياً فقط، ولا انقلابياً، بل مخطوف أيضاً جغرافياً. النيل مخطوف، وشواطئ البحر مخطوفة، ونحن لسنا سوى الضيوف غير المرغوب فينا، وغير المسموح لنا حتى بالهروب أو السفر، ومن يعارض، فالسجون تزداد عدداً، والأسمنت موجود وبكثرة، وخبراء الإنشاء معهم المساطر والورق.
وفي المساء تغني لك أنغام عن محبة الوطن، وعن وطن الفيروز، ومصطفى بكري، الانتحار عاوز إيه تاني؟
كلّمني صديق إنه يفكر جدياً في الانتحار، وأنا كقروي، لي أولاد أرعاهم، حاولت معه ضاحكاً، بأن الانتحار في بلادنا ترف حتى لا نملكه. سكت صديقي بأسى، وجلست مع نفسي أتأمل عشرات الشباب الذين رأيتهم معلقين من رقابهم في شبابيك شققهم، أو تحت الكباري التي تركها مبارك في عاصمة مخنوقة. جهز، هو وأولاده، هروبه منها مقدماً، بعمل قصور في شرم الشيخ، تكفّل بموتوراتها ومولداتها وبساتينها رئيس شركة المقاولين العرب الذي صار رئيساً للوزراء بعد الانقلاب، ثم مستشاراً للرئيس فيما بعد. وتأملت ترشيح منى الشاذلي لمنصب المحافظ. وتأملت ثانيةً المشانق التي رأيتها، وتأملت أيضاً المشانق التي سوف أراها فيما بعد، وتأملت أن قريباً من منزلي، على بعد ثلاثة كيلومترات، بنوا سجناً، أكثر اتساعاً من مدرستي الابتدائية. تأملت ذلك كله، وسألت نفسي: لماذا حينما مرضت أمك، بعدما أنهيت الجامعة، وكنت تفكر في الهجرة، لكنك قلت لنفسك يومها، سأنتظر، فإن ماتت، فلن أخلف ورائي محبة، وإن عاشت سوف أفرح لها، وأهاجر سعيداً، حتى على ظهر مركب، إلا أنها عاشت ما يوازي 35 سنة أخرى. وعلى الرغم من ذلك، لم تهاجر، فهل يعكر عليك صفاء وجودك سجن بناه ضابط قرب مكان سكنك؟ فكيف يضيق صدرك بسجن بسيط، وكل البلاد سجن كبير؟
ملعب كبير لفقراء الدلتا كامل العدد ومخنوق، وأمامه البحر، قِبلة المشتاقين للسفر والهروب من طغيان كل شيء، ابتداء من الفرعون، حتى ضيق ذات اليد. أمس فقط، بعد حلّ اتحادات الطلبة في الجامعات، حرّموا على الطلبة السفر إلا لأداء الحج أو العمرة، ومن قبل، أغلقوا باب السفر إلى 14 دولة (هذا للعلم)، حتى الملاعب أغلقت، ولم تبق سوى ملاعب الجيش وبرج العرب المحاطة بالدبابات، على الرغم من قانون التظاهر والإرهاب وافتتاح سجون جديدة وحل الجمعيات والنوادي وتأميم المستشفيات، واعتبار روابط الألتراس إرهابية، حتى جاء الدور على النادي الأهلي، وحده مرتضى منصور وابنه ينالان ثقة الشعب ومحبته، وحدها أندية القضاء والقوات المسلحة والشرطة التي تنتشر في طول البلاد وعرضها حتى شواطئ النيل. واضح أنهم قرروا أن يحولوا البلاد إلى (عباسية واسعة) باتساع الوطن.
أما إذا عدنا إلى الصعيد، فأنت تعود إلى مأساة بحق، ولك أن تتخيل المأساة، ولكن، في رمضان، بفضل توفيق عكاشة ومسلسلات رمضان إلى الصباح، لن تكون هناك أية مشكلة، وخصوصاً في وجود غادة عبد الرازق.
حتى المحاجر لفقراء العمال، يكاد أن يؤممها أيضا اللواءات، وخبراء النظام الضالعون في البلد. سمعت من صديق أن عمال المحاجر الذين اشتروا غرف النوم في أيام حسني مبارك يبيعونها اليوم، وقد تكونت تجارة لذلك، في وقت تعرض فيه وظيفة محافظ على امرأة مصرية لأول مرة (علّني أكون من مخطئاً)، أكاد أقول من 7000 سنة، فتعرض على المذيعة منى الشاذلي، والمدهش أنها ترفضها، فكيف تترك ملايين رجال الأعمال، وتتوجه إلى مشكلات الصرف الصحي والبنية التحتية في القليوبية أو الجيزة، كي تحصل على حوافز الدرجة، أو متغير الدرجة، أو حافز المحليات التي لا تكفي أجرة الكوافير أو السائق أو ثمن الأهداب الصناعية التي تظلل على فدان كما يقول الشاعر، واعتبرها الراحل لويس عوض (ورمش عين الحبيب ضلّل على فدان) في ميزان الشعر بنصف الشعر العربي أو كله، ولم يضع لنا في هوامشه: حتى ولو كان الرمش صناعياً؟
نحن إذن أمام وطن مخطوف، ليس سياسياً فقط، ولا انقلابياً، بل مخطوف أيضاً جغرافياً. النيل مخطوف، وشواطئ البحر مخطوفة، ونحن لسنا سوى الضيوف غير المرغوب فينا، وغير المسموح لنا حتى بالهروب أو السفر، ومن يعارض، فالسجون تزداد عدداً، والأسمنت موجود وبكثرة، وخبراء الإنشاء معهم المساطر والورق.
وفي المساء تغني لك أنغام عن محبة الوطن، وعن وطن الفيروز، ومصطفى بكري، الانتحار عاوز إيه تاني؟
كلّمني صديق إنه يفكر جدياً في الانتحار، وأنا كقروي، لي أولاد أرعاهم، حاولت معه ضاحكاً، بأن الانتحار في بلادنا ترف حتى لا نملكه. سكت صديقي بأسى، وجلست مع نفسي أتأمل عشرات الشباب الذين رأيتهم معلقين من رقابهم في شبابيك شققهم، أو تحت الكباري التي تركها مبارك في عاصمة مخنوقة. جهز، هو وأولاده، هروبه منها مقدماً، بعمل قصور في شرم الشيخ، تكفّل بموتوراتها ومولداتها وبساتينها رئيس شركة المقاولين العرب الذي صار رئيساً للوزراء بعد الانقلاب، ثم مستشاراً للرئيس فيما بعد. وتأملت ترشيح منى الشاذلي لمنصب المحافظ. وتأملت ثانيةً المشانق التي رأيتها، وتأملت أيضاً المشانق التي سوف أراها فيما بعد، وتأملت أن قريباً من منزلي، على بعد ثلاثة كيلومترات، بنوا سجناً، أكثر اتساعاً من مدرستي الابتدائية. تأملت ذلك كله، وسألت نفسي: لماذا حينما مرضت أمك، بعدما أنهيت الجامعة، وكنت تفكر في الهجرة، لكنك قلت لنفسك يومها، سأنتظر، فإن ماتت، فلن أخلف ورائي محبة، وإن عاشت سوف أفرح لها، وأهاجر سعيداً، حتى على ظهر مركب، إلا أنها عاشت ما يوازي 35 سنة أخرى. وعلى الرغم من ذلك، لم تهاجر، فهل يعكر عليك صفاء وجودك سجن بناه ضابط قرب مكان سكنك؟ فكيف يضيق صدرك بسجن بسيط، وكل البلاد سجن كبير؟