محمد حافظ رجب... تأتي الهدايا مرغمةً

14 نوفمبر 2024
+ الخط -

هناك من الكتّاب من يتسوّل الثناء على كسرة، وهناك من ينال الثناء بالعافية من تحت قفاطين النقّاد واستعطاف القرّاء في المعارض والندوات. مرّةً بالعصا، ومرّةً بالدموع، ومرّةً بالاتكاء على أكتاف أحفاده رغم ضمور الجسد، حتى وإن امتدّ العمر الأدبي أكثر من 50 سنة أو 70، وهذا هو الهوان للذات والكتابة أيضاً. وهناك من يقابل ثلاثة رؤساء جمهورية في عقر دارهم ثلاث مرّات في أقلَّ من تسع سنوات بلا خجل، كي يضمن لنفسه مقعداً في القطار الملكي والجوائز، رغم أنه لا قطار هناك ولا يحزنون، سوى ما يفيض من أرانبهم وكتاكيتهم المَلَكية، وهناك من ينتظر المترجم في المطارات بنظّارة الإخفاء وبخور سيدنا الحسين، ويعمل لديه دليلاً سياحياً فوق هضبة الهرم أو منشية ناصر أو أزقّة دار السلام كي يرصد له البلّاعات الضاربة من سبعينيّات القرن الماضي. وهناك من يذهب إلى المترجم بجلبابه البلدي الذي يرتديه للمرّة الأولى في سكنه بالمهندسين أو المعادي، كي تظلّ أجراس العالمية تدقّ له في كلّ كتاب يكتبه، رغم أن القراءة في بلادنا كادت أن تكون نسياً منسياً. إلا هذا الولي الطيب الوحيد والموهوب حدّ الهوس، من دون أن يكون هوساً حداثياً كما قال النقّاد، هو الكاتب الذي رحل عن عالمنا وحيداً في فبراير/ شباط 2021، محمد حافظ رجب.

زهد عجيب وعزّة نادرة، وهوس بطنين الكتابة من دون الخيلاء بمنتجها أو توظيفه أو انتظار السمن منها بـ"بجاحة". يكتب، وكأنه في حلم كابوسي، كتابة كقطعة ألم من لحمه الحيّ، بلا مناورة بأسلوب أو تنزّه في حدائق كتابات الآخرين، فمن أيّ منجم عذاب جاء محمد حافظ رجب، وإلى أي قدر ساق بنفسه مركبه من دون مباهاة أو تأنق.

وحيد "الورديان"، الذي يسكن في بيت قديم له سلّم خشبي، ويظلّ حبيس سريره بالسنة أو أكثر، يخرج الدعاء من صدره حشرجةً من دون ادّعاء قداسة أو تنمّر، وهو الذي قال ليوسف إدريس في عزّ طاووسيته: "لقد شاركت في ذبحنا"، من دون أن يوارب أو يتجنّب العداوة، فكيف تحوّل المحارب وحيداً في سريره، وهو الذي أقام القاهرة وأقعدها، ثمّ تركها وليّاً من دون أن يشارك في مائدة مسمومة.

فجأة، كانت أعماله الكاملة في جزئين من دار عين، هو الوحيد الذي لا يهبط إلى القاهرة منذ تركها في ستينيّات القرن الماضي إلى شقّته في الورديان، إلّا مرّات بعدد أصابع اليد الواحدة، وغالباً يظلّ صامتاً، أو يتحدّث بكلمات قليلة وليّاً تائهاً يتعجّب من فراغ العالم وخواء المائدة، مائدة الناس والكتابة معاً.

تلك هي الهدايا التي تأتي مرغمةً لأصحابها. تأمّلت الأعمال في طبعة خاصّة بفرح، وكأنها كتابات زاهد ومحارب قال كلماته في وجه العالم من دون تسامح أو مواربة أو حسبة مكاسب، كانت كتابةً من نسيج حياة، كتابة تقول الفاجعة بلا شهود، ولا تطمع في شاهد، سوى نفسها. كتابة يلملم فيها صاحبها جراحه من دون تسامح حتى مع نفسه، وقلت هكذا تكون الهدايا على قدر همّة أصحابها واختياراتهم الأليمة. وكتبت حينها عنه في أماكن عدّة، كان هناك من يقول لي غامزاً: "كيف تفتّش هكذا عن قبر واحد ميّت"؛ كانت العداوة جارحةً، رغم أن الرجل يسكن هناك وحيداً، ولا يقترب من أيّ مائدة لأحد أو لحكومة أو لمؤسّسة أو لرجل أعمال... إلى آخره.

ومن يومَين، كنت أقلّب في مجموعةَ أفلامٍ وثائقيةٍ (إنتاج 2023)، فصادفني فيلم وثائقي عن حياة الرجل بعنوان "جولة ميم المملّة". هكذا تأتي الهدايا لرجل مات بلا شلّة، ولا جيل بجواره، ولا تلامذة يغتصبون شارعاً باسمه، ولا "دكاترة" يؤرّخون لكتاباته في جامعات العالم نظير مقال هنا أو جائزة؛ ولا أنيس سوى ابنة تتحادث معه أو تحلق له لحيته وتقدّم له طعامه. غريبة تلك الكتابة، تعطي على قدر ألمها، وتأخذ منك بقدر إخلاصك، وتلك متعة الهدايا وخصوصيتها وقداستها أيضاً، إن كانت هناك قداسة، سوى السعي الكريم لصاحبها ونيّة كرم عطائه، وذلك حينما نبتعد بكرامة وتجرّد من سوق العرض والطلب والتجارة والتهريج الثقافي.

الفيلم من إنتاج هند بكر وإخراجها وتأليفها. من لهؤلاء الطيبين سوى هؤلاء؟ ... هكذا تأتي الهدايا مرغمةً، أمّا ما يُلقي به البحر من مخلّفات البحر، فلا تشغل وحيد الورديان أبداً، سوى أنها أشياء عادية، يرمي بها البحر كلّ آن، وتعبر قبالة ناظريه كبقيّة الأشياء الزائلة في ذلك العالم الغريب.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري