مصر وتونس.. مقارنة بين ثورتين

04 نوفمبر 2014

تظاهرة في تونس مناهضة للانقلاب العسكري في مصر (31يوليو/2013/الأناضول)

+ الخط -
يميل باحثون ومحللون سياسيون كثيرون إلى المقارنة بين مساري ثورتي 14 يناير 2011 في تونس و25 يناير 2011، بعد نحو أربع سنوات من قيامهما، وبالنظر إلى الانقلاب العسكري الذي عرفته مصر في الثالث من يوليو/تموز 2013، وإلى انتخابات برلمانية شهدتها تونس (26 أكتوبر/تشرين الأول 2014)، اعتبرت مرحلة فارقة في تاريخ تونس، وانتقالاً سلساً من الثورة إلى الدولة، وهو ما يعني نجاحاً للثورة التونسية، مقارنة بشقيقتها المصرية التي تعثرت تحت أقدام العسكر، وقوى الثورة المضادة في الداخل والخارج.

واتجه بعضهم إلى الربط بين النجاح النسبي للثورة في تونس بالحديث عن العقلانية والبراغماتية السياسية التي يتمتع بها حزب النهضة التونسي، ذو المرجعية الإسلامية، والمحسوب على "الإخوان المسلمين"، بينما يتم الربط بين تعثر الثورة في مصر وعدم قدرة جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية، حزب الحرية والعدالة، على إدارة توازنات ما بعد الثورة، وعدم القدرة على الحفاظ على وحدة الصف الثورى، وربط نجاح الانقلاب في مصر بفشل "الإخوان" في إدراك حجم التهديد، وبالتالي عدم القدرة على التعاطي معه.

ملاحظات

وهنا، تبرز ملاحظات عدة، يتم تأكيدها حتى تتضح أبعاد القصور في مثل هذا التحليل، وذلك التصور:

الأولى: من الأخطاء الشائعة في التحليل السياسي، أحادية التفسير، أي القول بسبب وحيد لنجاح الظواهر السياسية أو فشلها، الداخلية والخارجية، وهو ما يستحيل في العلوم الإنسانية عموماً، والعلوم السياسية خصوصاً، فقد يكون هناك عامل ذا تأثير أكبر، لكنه ليس الوحيد، لأن الظواهر السياسية، في تطوراتها وتحولاتها، هي محصلة عوامل عديدة تتفاعل فيما بينها للتأثير في هذه التطورات وتلك التحولات.

الثانية: أحد مناهج التحليل السياسي التي يتجاهلها باحثون كثيرون، منهج الارتباط (أو الركيزتان) (Two Level Game)، والذي يقوم على أن هناك تداخلاً شديداً بين العوامل، الداخلية والخارجية، في تشكيل التحولات والظواهر السياسية، وأن هذه التحولات تأتي انعكاساً لعمليات التفاعل المتبادل بين السياسات والقوى والجماعات الداخلية من ناحية، ومعطيات ومتطلبات البيئة الخارجية، وما تفرزه من تداعيات، من ناحية أخرى. فما يحدث على مستوى يؤثر على الآخر، ويمكن أن يظهر هذا التأثير في مخرجات ومطالب يفرزها كل مستوى، فالسياسات والأوضاع والقوى الداخلية تؤثر في تحديد أهداف الدولة، داخليّاً وخارجيّاً، وبالتالي في صياغة الاستراتيجيات التي تتبناها هذه الدولة لتحقيق أهدافها، ما ينعكس في التحليل الأخير على وضع الدولة وطبيعة علاقاتها وتفاعلاتها الدولية، من ناحية، وما تشهده من تحولات داخلية من ناحية ثانية.

عوامل تونسية

وفي إطار هاتين الملاحظتين، يمكن القول، إن هناك عوامل واعتبارات عديدة حكمت التحول السياسي في التجربة التونسية، وكانت مساعدة للنجاح النسبي الذي شهدته هذه التجربة، مقارنة بالتجربة المصرية، واستناداً إلى منهج الارتباط، يمكن التمييز بين مجموعتين أساسيتين من العوامل:

الأولى: النابعة من البيئة التونسية، ومنها:

1ـ المؤسسات العسكرية والأمنية التونسية محدودة الحجم والتأثير، فيما تهيمن المؤسسة العسكرية في مصر على أكثر من 40% من الاقتصاد المصري، وعلى مقدرات وثروات عديدة للدولة، وتحتكر قطاعات اقتصادية عديدة، كما أن دورها السياسي مهيمن على الحياة السياسية في مصر منذ 1952، بدليل أن رؤساء مصر قبل ثورة يناير 2011 من أبناء هذه المؤسسة، ناهيك عن الهيمنة على مناصب قيادية في قطاعات سيادية عديدة في الدولة، حتى في القطاعات المدنية منها.

2ـ طبيعة وتكوين المجتمع المدني التونسي ومؤسساته وهيئاته، والتي اتسمت بالاستقلالية والقدرة على الحشد والتعبئة، مثل النقابات العمالية، خلافاً لتبعية مثل هذه المنظمات للسلطة الحاكمة في مصر طوال عهد حسني مبارك، ولم يتحرر سوى عدد محدود منها في السنوات الخمس الأخيرة من عهده، ما انعكس على دورها في ثورة يناير.

3ـ نمط الثقافة السياسية السائد في المجتمع التونسي، والذي يتميز بدرجة عالية من الانفتاح، بحكم الارتباط الكبير بأوروبا، وخصوصاً فرنسا، مقارنة بوجود قطاع عريض في المجتمع المصري، تهيمن عليه الثقافة القبلية والفكرية المنغلقة، والتي يكون لها تأثيرها فيما يتعلق بالقدرة على إدارة الحوار والتسامح السياسي، وبناء التوافقات والتحالفات السياسية.

4ـ درجة التجانس العرقي والثقافي والديني في المجتمع التونسي، مقارنة بغيره من المجتمعات العربية، وتحديداً المجتمع المصري الذي توجد فيه أقلية دينية فاعلة، ممثلة في الأقباط، وأقلية عرقية مؤثرة ممثلة في أهل النوبة، وكذلك التفاوت الحضري الكبير في مصر مقارنة بتونس.

5ـ البراغماتية السياسية للقوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية، ممثلة في حركة النهضة التونسية، فقد أعلن زعيم الحركة، راشد الغنوشي، أن حزبه مستعد لتشكيل حكومة ائتلافية، وإنه لن يعارض أن يكون ضمنها مسؤولون من حكومة الرئيس السابق، زين العابدين بن علي. مؤكداً أن تونس تشهد مرحلة انتقالية، ويجب أن تحكم بتوافق الآراء. وهناك اعتبارات عديدة تفسر هذه البراغماتية، لعل في مقدمها مسار الثورة المصرية، والذي كان بمثابة نقطة تحول بالنسبة للغنوشي، وقراءته الحقائق المحلية والعربية الأكبر؛ كما أدرك الغنوشي أن المشهد السياسي في تونس يتحرك، ولا يتوقع أن يثبت في المستقبل القريب، وكذلك يدرك الغنوشي أن الانتصار على أساس الأرقام وحدها لا يمكنه أن يضمن الاستقرار السياسي في البلاد؛ فالأرقام وحدها لا تقيس العملية السياسية، ولكن ذلك يعتمد على رغبة جميع الأطراف في التعاون والتفاعل لتحقيق سياسات جديدة في مواجهة هذه الأطراف. والمحصلة لهذه البراغماتية نجاح حزب النهضة في الخروج بأقل الخسائر في مواجهة الثورة المضادة التونسية والإقليمية والدولية.

6ـ الخبرة السياسية للقوى والتيارات السياسية التونسية في بناء التحالفات، حتى قبل ثورة يناير 2011، ممثلة في "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات"، وهي إطار عمل سياسي، تم تشكيله عام 2005 من أحزاب عدة وشخصيات تونسية معارضة لبن علي، وأخذت اسمها من "18 أكتوبر 2005" تاريخ بداية إضراب قام به معارضون تونسيون من تيارات سياسية متعددة قبيل القمة الدولية للمعلوماتية في تونس في أكتوبر/تشرين أول 2005. وضمت الهيئة أغلب الأحزاب والحركات المعارضة للرئيس، بن علي، وأنشأت داخلها "منتدى 18 أكتوبر للحوار" للبت في المواضيع الخلافية، خصوصاً بين العلمانيين والإسلاميين، وأدّت النقاشات إلى إصدار سلسلة إعلانات "في العلاقة بين الدولة والدين"، و"حول حرية الضمير والمعتقد" و"حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين"، وشكلت الهيئة تجربة متميزة للعمل السياسي المنسّق، ومخبراً للحوار بين القوى السياسية المختلفة، ونجحت في إحداث نوع من الاتفاق حول أسس النظام الديمقراطيّ البديل، والتقدّم في صياغة عهد ديمقراطيّ، كان مقدمة للتأسيس لفعل سياسيّ موحد يبني الكتلة التاريخيّة التي تحتاجها البلاد للانتقال إلى الديمقراطيّة، ما ترسخ في المرحلة الانتقالية لثورة 14 يناير 2011.

7ـ نمط القيادة السياسية التي توفرت، في المرحلة الانتقالية للثورة التونسية، والتي تولت عبء الدفاع عن الثورة وإدارة عملية الانتقال السياسي، وبناء التوافقات السياسية، سواء في المناضل والمفكر، المنصف المرزوقي، أو في راشد الغنوشي، وغيرهما من قيادات العمل الثوري التونسي، والذين نجحوا من خلال تفاهمات وتوافقات، وبما يمتلكانه من خبرات في إدارة المشهد، وتحقيق هذا النجاح النسبي في التجربة التونسية مقارنة بالثورة المصرية التي لم تتوافر لها قيادة موحدة، بل إن رموزها سرعان ما تساقطوا على طريق الثورة، ونجحت قوى الثورة المضادة في تمزيق نموذجهم الوحدوي الذي تجسد في الأيام الأولي للثورة بين 25 يناير و11 فبراير 2011.

8ـ مستوى التعليم ومعدلاته بين التونسيين وانعكاسه على درجة الوعي وحجم المشاركة السياسية: حيث تبلغ نسبة الأمية في تونس (وفق تقديرات 2012) نحو 38% بينما وصلت تقديراتها في مصر إلى نحو 63.8%. وتترك هذه الفجوة الكبيرة تأثيراتها على درجة الوعي السياسي، وبالتبعية على حجم المشاركة السياسية، سواء في الانتخابات أو الفعاليات والممارسات السياسية المختلفة.

تونسيون في انتظار الدخول إلى مقر اقتراع (26أكتوبر/2014/أ.ف.ب)


عوامل خارجية

الثانية: العوامل النابعة من البيئة الخارجية (الإقليمية والدولية)، ومنها:

1ـ الدور الإقليمي والمكانة السياسية التي تتمتع بها تونس في محيطها الإقليمي والدولي، وتأثير التغيير فيها على حجم التأثير على معدلات التغيير في المنطقة ونطاقه.

2-موقع تونس من المحاور الإقليمية المتصارعة في المنطقة، وخصوصاً بين المحور الداعم للثورات المضادة والانقلابات العسكرية والرافض للتغيير الثوري (تقوده السعودية والإمارات)، والمحور الداعم للثورات الشعبية والحاضن لعمليات التغيير الثوري في المنطقة (تقوده قطر وتركيا).

3ـ موقع تونس الجغرافي من إسرائيل، فدول الطوق المجاورة للكيان الإسرائيلي يكون التغيير فيها (حجماً ونطاقاً ونجاحاً أو فشلاً) مرتبطاً بتأثيره على أمن الكيان الإسرائيلي واستقراره، فكلما كنت أكثر قرباً من هذا الكيان يكون نجاحك رهناً بأمنه واستقراره، والعكس صحيح.

4ـ تأثير القوى الدولية على عملية التحول السياسي في تونس، وهنا يبرز دور فرنسا (باعتبارها صاحبة دور تاريخي في تونس) والولايات المتحدة (باعتبارها الفاعل الأول في العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة ومنذ نهاية الحرب الباردة 1991)، ونجد تأثير هذا الدوران محدوداً أمام تركيز فرنسا اهتمامها على الأوضاع في ليبيا ومالي وسورية، وتركيز الولايات المتحدة اهتمامها بما يحدث في سورية والعراق، وكذلك في مصر وليبيا. ومن هنا، كانت حرية حركة الأطراف الداخلية في تونس أكثر وأوسع، بعيداً عن ضغوط القوى الدولية وتأثيراتها مقارنة بمصر، حيث التأثير الفاعل، بل والحاسم للولايات المتحدة في إدارة التغيير في الداخل المصري، سواء في إسقاط نظام محمد مرسي أو ترسيخ نظام السيسي.

5ـ أولوية التحولات السياسية في تونس مقارنة بالتحولات والتطورات الإقليمية في المنطقة، فمع أهمية وتأثير ما تشهده تونس من تحولات، يمكن أن تكون لها تأثيراتها على دول عربية عديدة، فإن هذه الأهمية وذلك التأثير يمكن أن يتراجعا مقارنة بالتحولات والتطورات التي يشهدها العراق وسورية، أو التي يشهدها اليمن، وتلك التي تشهدها مصر، وكذلك التي تشهدها ليبيا. ومع هذا التراجع، تكون حرية حركة الأطراف السياسية التونسية أعلى، مقارنة بغيرها من الدول، ومنها مصر، والتي تقع تحت ضغط كثافة الاهتمام الإعلامي والسياسي الإقليمي والدولي.

مخاطر قائمة

وأمام العوامل السابقة، يمكن القول إنه من غير المنطقي القول إن النجاح النسبي للثورة التونسية، كان نتيجة عامل أحادي فقط، بل نتيجة مجمل هذه العوامل، وأنه على الرغم من هذا النجاح يبقى الخطر قائماً، بل وكبيراً على التجربة التونسية برمتها، ولعل في مقدمة مصادر هذا الخطر:

1ـ الدور الإقليمي الداعم لحزب "نداء تونس" الذي يمثل أنصار نظام بن علي وبقاياه، هذا الدور الذي تقوده السعودية والإمارات في مواجهتهما الشاملة عبر دول الإقليم لجماعة الإخوان المسلمين، بكل فصائلها وتياراتها.

2ـ خطر العائدين من سورية والعراق، من المجاهدين التونسيين الذين انخرطوا في غمار الجماعات الجهادية في هاتين الدولتين في مواجهة نظام نوري المالكي في العراق ونظام بشار الأسد في سورية.

احتفالا بنتائج انتخابات تونس (26أكتوبر/2014/الأناضول)

3ـ خطر المال السياسي الذي يمكن أن يعبث بالاستقرار السياسي في تونس، بشراء أحزاب أو شخصيات أو وسائل إعلام وتوجيهها ضد الثورة التونسية ومنجزاتها.

4ـ امتداد التأثيرات السلبية لتطورات الأوضاع في ليبيا إلى الأراضي التونسية، والتي تحتضن على أراضيها أكثر من مليون لاجئ ليبي، يمكن أن يشكلوا إحدى أوراق الضغط السياسي والأمني على النظام التونسي، ويمكن استغلالهم من أطراف خارجية لتحقيق أدوار في الداخل التونسي.

5ـ المواقف الدولية المتغيرة، والتي يمكن أن تعمل على تفجير الأوضاع في تونس، إذا وجدت أن محصلة الاستقرار السياسي على المدى البعيد يمكن أن تكون لمصلحة حزب النهضة، وهو ما ترفضه معظم دول، إن لم تكن كل الدول الغربية والولايات المتحدة.

وأمام هذه المخاطر، يبقي الرهان، دائماً، لنجاح الثورة التونسية، وكما الحال في كل الثورات الشعبية، على إرادة الشعب التونسي وقدرته على توحيد صفوفه دفاعاً عن ثورته، دفاعاً عن استقلال إرادته، دفاعاً عن عزته وكرامته.

A57B9A07-71B2-477E-9F21-8A109AA3A73D
عصام عبد الشافي

باحث وأكاديمي مصري، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، يعمل أستاذاً للعلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة رشد التركية، من مؤلفاته: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية (2013)، السياسة الأمريكية والثورة المصرية (2014).