تناقلت وكالات أنباء عالمية ومواقع التواصل الاجتماعي ملخصا واضحا وصريحا لما حصلت عليه مصر من قروض خارجية، منذ بداية أزمة الجائحة التي ضربت أغلب بلدان العالم، وعطلت اقتصاداتها لفترة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وما زالت محاولات العودة لما كانت عليه الحال قبل ظهور الفيروس متعثرة في بعض الدول.
وفي حين وجه العديد من البلدان تريليونات الدولارات، في صورة إعانات وقروض للملايين من المواطنين والشركات، لمساعدتهم على التغلب على الظروف الحالية، اضطرت وزارات المالية/ الخزانة في تلك الدول لزيادة اقتراضها بصورة واضحة، لمواجهة الزيادات غير المتوقعة في إنفاقها على مدار الشهور الأربعة الماضية.
وفي مصر، وعلى الرغم من محدودية مساهمة الحكومة في تخفيف العبء عن المواطنين والشركات، وقصر الفترة التي تم فيها إغلاق الشركات والمحال والمصانع، إن وجدت، سارعت الحكومة المصرية لاستغلال الأزمة، واتفقت على اقتراض أكثر من 14 مليار دولار من القروض الجديدة، كانت عبارة عن 7.9 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، و5 مليارات دولار حصيلة سندات دولية تم بيعها في شهر مايو/ أيار الماضي، ومليار دولار بتنسيق من بنوك إماراتية(!)، بالإضافة إلى أكثر من 450 مليون دولار من البنك الدولي.
وبخلاف الهروب المتوقع، والذي حذرنا منه مراراً، لأكثر من 17 مليار دولار من استثمارات الأجانب في أدوات الدين بالجنيه المصري، مما يطلق عليه الأموال الساخنة، مع بداية ظهور الجائحة في مصر، وتوقف السياحة الخارجية التام لأكثر من ثلاثة أشهر، لم تكن هناك تأثيرات للأزمة يمكن من خلالها تبرير الحصول على كل تلك القروض، وتحديداً بالعملة الأجنبية، خاصة وأن البنك المركزي بادر بسحب 9.5 مليارات دولار من احتياطي النقد الأجنبي خلال 3 شهور.
وفي مقابل السياحة الواردة للبلاد، التي توقفت تماماً، توقفت أيضا السياحة الصادرة، في أعلى درجات موسم العمرة خلال شهري شعبان ورمضان، وفترة هروب المصريين إلى البلاد الأوروبية خلال فصل الصيف، ثم موسم الحج الذي يأتي في الأسبوع الأخير من يوليو/ تموز هذا العام.
أما قناة السويس، فقد أكدت هيئتها أن إيراداتها خلال العام المالي المنتهي قبل أسبوع كانت أقل منها في العام المالي السابق، بما لا يتجاوز 30 مليون دولار (5.72 مليارات مقارنةً بـ 5.75 مليارات دولار). ورغم توقع انخفاض تحويلات المصريين العاملين في الخارج، بعد إجراءات قاسية اتخذتها حكومات دول الخليج تجاه العمالة الأجنبية لديها، لم يظهر هذا التأثير حتى الآن، ولا يتوقع أن يكون كبيراً في ظل الدعم غير المشروط من السعودية والإمارات للنظام المصري الحالي، باعتبارهما أكبر الموظفين للعمالة المصرية.
وفي الوقت الذي لم تتأثر فيه الصادرات المصرية بالكثير من الأحداث الحالية، تراجعت الواردات المصرية بنسبة ضئيلة، الأمر الذي يعني أن الميزان التجاري ما زال يعاني عجزاً سنوياً يقترب من 35 مليار دولار، وهو ما يشير بوضوح إلى أصل المشكلة، ومن ثم الطريقة المثلى للحل، بدلاً من استسهال الاقتراض الخارجي، وزيادته عاماً بعد عام، رغم إنكار المسؤولين تارة، وتجاهلهم تلك الحقيقة تارات أخرى.
وبعد أن أقنعونا بأن الاتفاق مع صندوق النقد أواخر عام 2016 على اقتراض 12 مليار دولار كان هدفه الأساسي هو الحصول على شهادة ثقة من المؤسسة الدولية، تساعد على جذب الاستثمارات الأجنبية، مرت سنوات عديدة، ولم نشهد إلا استثمارات "طال عمرهم"، التي ترتدي عباءة الحليف السياسي، ولا تعبأ بشهادة الصندوق، وتكتفي بما تحصل عليه من تسهيلات من حكومة منعدمة الحيلة.
وبعد ما يقرب من أربعين شهرا من حصول مصر على أول دفعة من الصندوق، ورغم دعاوى نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي، ها نحن نعود للصندوق مرة أخرى. وبعد أن أوهمنا في 2016 أنه منحنا أقصى ما يمكن منحه، بعد سنوات طويلة من التفاوض، إذا به يتلقفنا، وقد تضاعفت ديوننا عدة مرات، ويوافق في غضون أسابيع، على إقراضنا كل تلك المليارات.
يسعد الصندوق بإقراض مصر، ويعتبرها أفضل زبائنه، كون حكومتها تنفذ كل ما يطلب منها، من تعويم للعملة المحلية، وإلغاء للدعم الحكومي لأسعار الخبز والمياه والطاقة، ثم بيع شركات القطاع العام. ومن ناحية أخرى، يعتبر الصندوق مصر حقلاً رائعاً لتجاربه شديدة القسوة بالشعوب، حيث يضمن عدم حدوث ردود فعل احتجاجية، مع سيطرة قوة غاشمة جنونية على مجريات الأمور، بينما يبقى الكفيلان السعودي والإماراتي ضامنين للسداد.
ما تقترضه مصر من صندوق النقد، ومن خلال السندات الدولية، يساعد الحكومة المصرية في هدفها المتمثل في الحفاظ على السعر الحالي للجنيه، رغم الضغوط الواضحة على ميزان المدفوعات، على مدار سنوات قبل ظهور الفيروس في العالم وحتى الآن. لكن على المدى الطويل، لا يمكن توقع إلا نتائج كارثية من تلك السياسات، حيث تستمر الديون الخارجية في الارتفاع، وتستمر الحكومة في تقديم التنازلات للدائنين، قبل أن تتجه لبيع المزيد من الأصول خلال السنوات القادمة.
ما اقترضته مصر خلال الأسابيع الماضية، وما اتفقت على اقتراضه خلال الشهور القادمة، سيساعد على توفير قوة مصطنعة للجنيه المصري، حتى منتصف العام القادم في أفضل الأحوال. لكن دوام هذا الحال من المحال، وسيأتي العام القادم باستحقاقات ديون سابقة وجديدة، لتجد الحكومة نفسها مرة أخرى أمام نفس الظرف الحالي، بينما تتراجع فرص حصولها على قروض أخرى. ومع وجود بديل واحد، يتمثل في السحب من الاحتياطي، لن تفلح جهود تثبيت سعر الجنيه أمام الدولار، وربما نشهد انهياراً جديداً له، كما حدث في عام 2017.
سياسة الاقتراض الخارجي ليست حلاً، والداعمون ليسوا دائمين، وإنما تحكمهم المصالح، ولن تعرف مصر إصلاحاً اقتصادياً إلا بإصلاح ميزانها التجاري وتخفيض العجز في ميزان مدفوعاتها تدريجياً، وصولاً إلى تحقيق فائض. وأي كلام عن نجاح الإصلاح الاقتصادي في مصر دون تحقيق ذلك لن تكون له جدوى إلا في مخيلة الحالمين، أو المستفيدين من خرابها.