تنتهي ولاية رؤساء ثلاث هيئات قضائية في مصر، هي مجلس القضاء الأعلى (محكمة النقض) والنيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، بعد أيام، وسيتوجب على الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، لأول مرة تطبيق القانون الذي أصدره بمساعدة برلمانه والذي يمنحه سلطة اختيار رؤساء الهيئات القضائية من بين أقدم 3 قضاة أو من بين أقدم 7 قضاة بحسب الأوضاع الخاصة بكل هيئة. وكانت الهيئات القضائية الثلاث المذكورة قد التزمت بتنفيذ القانون الجديد وأرسلت إلى السيسي أسماء أقدم 3 أعضاء فيها تمهيداً لاختيار أحدهم. أما الهيئة الوحيدة التي رفضت الانصياع لهذا القانون، فهي مجلس الدولة الذي أصرت جمعيته العمومية على اتباع التقاليد القضائية والأقدمية المطلقة التي كانت سارية قبل صدور هذا القانون، وأرسلت ترشيحاً واحداً باسم أقدم الأعضاء المستشار، يحيى دكروري، لتفتح جبهة للمواجهة المباشرة مع السيسي.
ففي مجلس القضاء الأعلى، تؤكد المؤشرات استبعاد المستشار أنس عمارة، أقدم الأعضاء، والذي تصفه المصادر بالهدف الرئيسي لهذا القانون، باعتباره واحداً من أعضاء الفريق القديم لـ"تيار استقلال القضاء"، ولعلاقته الوطيدة بالرئيس الأسبق لمحكمة النقض والجمعية التأسيسية لدستور 2012، المستشار حسام الغرياني. ويتنافس قاضيان على مقعد عمارة؛ الأول هو مجدي أبوالعلا والثاني هو إبراهيم الهنيدي، ولكل منهما نقاط قوة في هذا السباق نحو المنصب؛ فأبوالعلا معروف بكونه أحد أبرز قضاة النقض الجنائي حالياً وصاحب عدد كبير من أحكام إدانة "الإخوان المسلمين" والمنتمين للتيار الإسلامي منذ 2013. وهو صاحب حكم إدانة زميله السابق المستشار محمود الخضيري، والقيادي "الإخواني" محمد البلتاجي، بتهمة تعذيب محام عام 2011، وهو صاحب حكم إعدام 6 من شباب جماعة "الإخوان" بتهمة اغتيال حارس أحد أعضاء الدائرة التي تحاكم الرئيس المعزول محمد مرسي. بالإضافة لذلك فهو معروف بصداقته الوطيدة لوزير العدل الحالي حسام عبدالرحيم، ولشقيق السيسي، رئيس وحدة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، القاضي أحمد السيسي.
أما الهنيدي، فعلى الرغم من ضعف سيرته القضائية ومحدودية أحكامه بعد عودته للقضاء عام 2015، إلا أن ما يدعمه بقوة هو توليه سابقاً وزارة الشؤون القانونية والعدالة الانتقالية في حكومة إبراهيم محلب، وكذلك رئاسة جهاز الكسب غير المشروع. وهو صاحب قرار إحالة قضايا الربح الخاص بالمرشح الرئاسي الأسبق، أحمد شفيق، إلى القضاء العسكري، ولذلك فهو مدعوم من الأجهزة الأمنية، مع أنه أحدث من أبوالعلا.
وترجّح المصادر أن يحسم السيسي الاختيار لمصلحة أبوالعلا، فقط لعدم فتح مواجهة قضائية أخرى معه، لا سيما أنه من المتوقع أن يلجأ أنس عمارة إلى دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة النقض ثم إلى المحكمة الدستورية للطعن على قرار تخطيه واستبعاده من رئاسة محكمة النقض. وتبدو الأمور أكثر ضبابية في هيئة قضايا الدولة التي رشحت أقدم 3 أعضاء فيها وهم محمد ماضي، ومنير مصطفى، وحسين خليل، على عكس المتوقع والمتداول بأن الأمر محسوم للأقدم من دون مشاكل. ويذكر مصدر بالهيئة ومصدر آخر بوزارة العدل أن الرئاسة تلقت عدة شكاوى من أعضاء بالهيئة ضد ماضي وتطالب بإقصائه وعدم اختياره على الرغم من أحقيته بالأقدمية المطلقة. ويتذرع هؤلاء بأن ماضي "إخواني الهوى" وأنه كان متعاطفاً مع مرسي وأعلن معارضته لفض اعتصامي رابعة والنهضة، إلى جانب أنه كان عضواً في الهيئة الاستشارية القانونية التي شكلها مرسي في مايو/أيار 2013.
أما النيابة الإدارية فهي الهيئة الوحيدة التي تبدو الأمور فيها محسومة على أساس منطقي بعيداً عن السياسة. وتتجه المؤشرات لاختيار المستشارة محاسن لوقا، وهي ثالث أقدم الأعضاء وأحدث المرشحين لرئاسة الهيئة، لكنها في الوقت ذاته الوحيدة بينهم التي تؤهلها أقدميتها للبقاء في رئاسة الهيئة حتى سبتمبر/أيلول 2018. وسيتقاعد المرشحان الأقدم منها وهما رشيدة فتح الله، وعبد المنعم الدجوي، في يوليو/تموز وسبتمبر أيلول المقبلين من عام 2017، أي أنه إذا تم اختيار أي منهما فسوف تضطر الهيئة للترشيح مرة أخرى ويضطر السيسي لإعادة الاختيار مرة أخرى قبل بداية العام القضائي المقبل، والذي يبدأ في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول، مما يعني أن اختيار محاسن لوقا هو الحل العملي الوحيد لاستقرار رئاسة الهيئة. وهذه ليست المرة الأولى التي ستتولى فيها امرأة أو شخص ينتمي للطائفة المسيحية رئاسة النيابة الإدارية، وهو ما يمكن أن يساهم في تجنب نشوب أي غضب بين أعضاء الهيئة لتجاوز المرشحين الاثنين الأقدم، وفق المصادر.
ويختلف الوضع تماماً في مجلس الدولة، بدءاً من الموعد المتوقع للتعيين وانتهاءً بطبيعة المنافسة على المنصب، والتي تبدو محصورة بين القاضي الأقدم يحيى دكروري، صاحب حكم بطلان التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، والقاضي الذي كانت أقدميته ستأتي به رئيساً للمجلس بعد دكروري وهو رئيس قسم التشريع الحالي، أحمد أبو العزم، والذي سبق وأصدر تقريراً يصف قانون تعيين رؤساء الهيئات القضائية الجديد بعدم الدستورية.
وعلى الرغم من دعم أبو العزم من قبل وزير العدل ورئيس مجلس النواب والمستشار القانوني الشخصي للسيسي، محمد بهاء أبوشقة، إلا أن هناك شخصيات أخرى مقربة من السيسي كالرئيس السابق عدلي منصور، ومستشاره القانوني مصطفى حنفي، ومحافظ البنك المركزي طارق عامر، لا تزال تنصحه بتجنب الصدام مع مجلس الدولة وغلق طريق المواجهة القضائية معه، باختيار دكروري. ويشير أصحاب هذه النصيحة، بحسب المصادر، إلى أن دكروري يشغل حتى الآن منصب عضو مجلس إدارة البنك المركزي وهو منصب رفيع ولا يحظى به إلا شخص مقبول من الجهات الأمنية والسيادية، فضلاً عن عمله سابقاً كمستشار قانوني بالبرلمان ومجلس الوزراء وموقفه المعارض لنظام "الإخوان" وخروجه في تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013.
وتصف المصادر مشكلة دكروري بأنها لا تتعلق بشخصه بل بطبيعة العلاقة المضطربة بين السيسي ومجلس الدولة. وعلى الرغم من أن دكروري نفسه كان يروج قبل انعقاد الجمعية العمومية لتطبيق القانون وترشيح أقدم 3 قضاة تفادياً للصدام مع الرئاسة، إلا أن الجمعية العمومية أصرت على رأيها الخاص برفض القانون، ومخالفة جميع الأطروحات التي كان يفضلها دكروري وأبو العزم وباقي أقدم 7 قضاة بالمجلس، وفق المصادر.
وفي هذا السياق، يشدد مصدر قضائي رفيع بمجلس الدولة على "عدم صحة ما تردد من معلومات على الفضاء الإلكتروني عن وجود اتفاق مسبق بين أقدم 7 قضاة في مجلس الدولة أو غيره من الهيئات على وجوب التنازل للأقدم وعدم تطبيق قرار السيسي إذا تجاوز قاعدة الأقدمية". ويؤكد أن أعضاء المجلس الأعلى لمجلس الدولة فشلوا في صياغة مشروع قرار موحد لتتبناه الجمعية العمومية، إذ اعتقد بعضهم أنه قد أصبح له حظ في رئاسة الهيئة بعد إصدار القانون رسمياً، بما في ذلك من لم تكن أقدميتهم تؤهلهم لذلك. كما أن رئيس المجلس محمد مسعود، وأبو العزم من جهة، اختلفا مع دكروري، إذ كانا يرغبان في إجراء تصويت بالاقتراع على جميع القضاة السبعة الأقدمين، مما يعكس خلافاً حاداً في وجهات نظر القضاة في التعامل مع القانون الجديد.
يذكر أن محكمة القضاء الإداري تنظر حالياً دعوى أقامها المحامي عصام الإسلامبولي لإلغاء هذا القانون، ومن المتوقع أن يقيم القضاة الذين قد يتخطاهم السيسي دعاوى مشابهة تطالب بإحالة القانون للمحكمة الدستورية العليا، استناداً إلى مخالفته النصوص الدستورية التي تكفل لكل هيئة قضائية إدارة شؤونها والقيام عليها بذاتها بمعزل عن تدخل السلطتين التنفيذية أو التشريعية.