مصر بين ثقافة العنف وثقافة الأمن
الخطر الرئيسي الذي تتعرض له الدولة المصرية، ويهدد نسيجها الوطني المتجانس في هذه المرحلة الفارقة من تاريخها، هو الصراع بين ثقافة العنف في أوصال قطاعات من أبناء الشعب المصري، وإفرازها الرئيسي الإرهاب، بمستوياته وأشكاله المختلفة، وثقافة الأمن التي تتبناها السلطة بآلتها العسكرية، وإفرازها الرئيسي التعامل بالقوة المسلحة مع "المنتج النهائي" لثقافة العنف، أي الجماعات والتنظيمات المسلحة، وكل من يتم الاشتباه فيهم، إما بضربات استباقية في حالة الاكتشاف المبكر لها، أو بالمواجهة خلال تنفيذ عملياتها أو بعده، وهكذا تدخل مصر في حلقة مفرغة، تتصاعد فيها وتيرة الصراع والمواجهات الأمنية على مستويين.
الأول، وهو مستوى غير مسبوق للمجتمع المصري. بدأ في عام 2012، بعملية إرهابية مخططة واحترافية، استهدفت، وللمرة الأولى، موقعاً عسكرياً لوحدة حرس حدود في رفح، في سيناء، حيث داهمتها في ساعة الإفطار في رمضان/ يوليو، وسقط فيها 17 شهيداً من أبناء القوات المسلحة. وكانت تلك العملية الإرهابية بمثابة دق ناقوس الخطر بأن هناك أذرع جديدة للإرهاب، تستهدف القوات المسلحة مباشرة. وتوالت العمليات العسكرية التي تستهدف عناصر القوات المسلحة، وعناصر الأمن والشرطة المدنية في سيناء، وشهدت تلك العمليات تطوراً نوعياً خطيراً في أكتوبر/تشرين أول 2014، بعد أن أعلنت جماعة أنصار بيت المقدس مبايعتها تنظيم الدولة الإسلامية، داعش، واتخاذها مسمى ولاية سيناء، وتنفيذها عملية عسكرية نوعية ضد موقع كرم القواديس في الشيخ زويد بسيارات مفخخة وانتحاريين، ما يعود بنا إلى أساليب تنظيم القاعدة وأذرعها، وسقوط أكثر من 30 شهيداً من أبناء القوات المسلحة. ثم جاء التطور النوعي الأكبر في عمليات تنظيم ولاية سيناء، في يناير/كانون ثاني 2015، عندما تعرضت منشآت ووحدات ومقرّات عسكرية وأمنية، في منطقة العريش، إلى هجمات مخططة بسيارات مفخخة وانتحاريين، وقصف بالهاونات، أدى إلى سقوط شهداء وجرحى بين صفوف القوات المسلحة والأمن، وخسائر مادية فادحة.
تلك كانت أبرز إفرازات ثقافة العنف والإرهاب. على الجانب الآخر، عملت القوات المسلحة على تطوير عملياتها العسكرية، وملاحقة كل العناصر المشتبه بها، ومداهمة وتمشيط كل المناطق الممكن أن تكون ملاذات للخلايا المسلحة، واتخاذ إجراءات حاسمة وصارمة، لإنشاء شريط أمنى ومنطقة عازلة في رفح، لإحكام السيطرة على المناطق الحدودية. وجاءت قرارات تشكيل قيادة عسكرية جديدة على مستوى رفيع، يتولاها قائد برتبة فريق، تكون مسؤولة عن منطقة سيناء بالكامل، شرق القناة، ومحاربة الإرهاب، بعد أن كانت المسؤولية موزعة بين قيادتي الجيشين، الثاني والثالث الميدانيين، وهو إجراء يجعل من سيناء منطقة عمليات في مواجهة عناصر التنظيمات الإرهابية، وتخضع لقيادة عسكرية واحدة، تلك أيضاً كانت اهم إفرازات ثقافة الأمن.
كان ذلك على المستوى الأول والأخطر الذي يتم فيه استهداف القوات المسلحة مباشرة، وهو أمر، كما أشرنا، غير مسبوق، وأيضاً غير مقبول من المجتمع المصري الذي تضم القوات المسلحة أبناءه من المجندين، والمتطوعين، والضباط، من مختلف أطياف الشعب، ويعتبرها الدرع الذي يحمي الوطن.
أما المستوى الثاني للصراع بين ثقافتي العنف والأمن، فهو الدعوات التي بدأت تطفو على السطح لاستخدام العنف، وقد وقعت عمليات متفرقة ضد منشآت ومرافق عامة ونقاط أمنية في المدن والأحياء، وبعض مظاهر العنف التي تصاحب بعض التظاهرات، بدعوى أن "السلمية" لم تعد تجدي في مواجهة النظام، وأن تجاوزات عناصر الأمن يجب أن تتم مواجهتها بالأسلوب نفسه، في إطار حق الدفاع عن النفس والثأر، وهي أفكار ودعاوى تحمل إفرازات لثقافة العنف التي بدأت تتنامى لدى قطاعات شعبية في ظل انسداد أفق أي حوار سياسي. وعلى الجانب الآخر، ثقافة الأمن لدى أجهزة الشرطة تدفعها إلى استخدام آلياتها العنيفة في مواجهة المنتج النهائي للإرهاصات التي تفرزها ثقافة العنف، ويستمر الصدام في شكل كَر وفر ما بين منفذي العمليات التي تأخذ طابعاً عشوائياً وغير منظم، وأيضاً التظاهرات والمسيرات، خصوصاً في الأحياء الشعبية وبعض الضواحي، وبين عناصر الشرطة والأمن بتنظيماتها المختلفة، والتي قد تلجأ إلى طلب الدعم من القوات المسلحة في مواقف وحالات معينة، تخرج فيها الأمور عن سيطرة عناصر الشرطة المدنية، أو عن قدراتها.
والسؤال هو طالما إن هناك قوات مسلحة قوية وقادرة على مواجهة التحدي الذي تمثله التنظيمات الإرهابية المسلحة في سيناء، وهناك أجهزة أمن وشرطة مدنية استعادت عافيتها، وتستطيع مواجهة تحدي العنف في الداخل أيضا، فأين المشكلة، إذن؟
إنها تكمن في انعكاس هذا الصراع الذي أصبح مفتوحاً ودامياً، يتطور ويتصاعد بشكل دراماتيكي ما بين "المنتج النهائي" لكل من ثقافة العنف وثقافة الأمن، على حالة السلم الاجتماعي والشعور بالأمان لدى المواطن، في غياب تام لكل مؤسسات الدولة وقوى المجتمع المدني، وفي تجاهل تام، أيضاً لجوهر المشكلة. أعتقد أننا في حاجة إلى وقفة جادة وموضوعية، ليس فقط مع ثقافة العنف والتطرف والإرهاب. ولكن، أيضاً، مع ثقافة الأمن السائدة، ولا يجب أن ننتظر حتى يداهمنا المنتج النهائي لكل منهما بكل ما يحمله من تطرف وعنف وعناد، لا يجدي معه أي حوار. يجب أن يكون هناك تدخل حقيقي وإيجابي من كل قوى الدولة المدنية، ومؤسسات المجتمع، لإيقاف خطوط إنتاج المواطن "الإرهابي" الذي يحمل قدراً هائلاً من الشعور بالقهر والإحباط والرغبة في تدمير الآخر، حتى لو دمر ذاته، وتحويلها إلى إنتاج مواطن سوى متصالح مع نفسه، ومع المجتمع، بفتح مجالات الحوار والمشاركة، وهو أمر ليس سهلاً، ويحتاج إلى خطوات شجاعة على كل مستويات السلطة، وأيضاً إلى تضافر كل الجهود. وبالقدر نفسه من الجدية، يتم العمل على تطوير "خطوط إنتاج" رجل الأمن، في إطار منظومة قيم سلوكية، تحكم عمل كل أجهزة الأمن، وتغيير مفهوم رجل الأمن، من كونه الآخر في مواجهة المواطن، ليكون هو أيضاً مواطناً، ولكن يرتدي "اليونيفورم"، يؤدي دوره في حماية المواطن الذي لا يرتدي "اليونيفورم".
الشعب المصري الذي يعتز، عن حق، بأنه صاحب حضارة ضاربة في أعماق التاريخ، يستحق أن يخرج من ثنائية الصراع بين ثقافة العنف وثقافة الأمن إلى رحاب ثقافة الاختلاف وقبول الآخر، وثقافة الحوار الحضاري. أزعم أنه يستطيع، فقط إذا أراد.