04 نوفمبر 2017
مصر بين تأبيد السلطة وفسحة الأمل
خالد السيد
تواترت الأنباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في الأيام القليلة الماضية، عن حملات أمنية قام بها النظام المصري، وأدت إلى القبض على عشرات الشباب، لم تتجاوز أعمار معظمهم الخامسة والعشرين. وجاء ذلك، عقب حالة التضامن العفوي الذي قامت به مجموعاتٌ شبابيةٌ، نتيجة الغضب والمرارة التي تولدت في أعقاب حادثة قطار محطة مصر؛ والتي أودت بحياة عشرات من المواطنين، في مشهد أعاد تذكير المصريين بحادثة قطار الصعيد عام 2002. وتتماهى حادثة القطار الجديدة مع نظرة السلطة إلى أغلبية المصريين من الأقل دخلًا وشأنًا، فليس من المصادفة أنّ لرأس السلطة الذي يتندّر على أصحاب دراسات الجدوى خطاباً شهيراً يشير فيه إلى عقلية سمسار أو مضارب بورصة في أثناء حديثه عن الميزانية اللازمة لتطوير خطوط السكك الحديدية بالقول: "العشرة مليار دول لو أنا حطتهم في البنك لو خدت عليهم فايدة 10% يعني مليار دولار".
تتزامن الحملات الأمنية أخيراً، وأدت إلى اعتقال شبابٍ عديدين مع سعي حثيث من مجلس النواب المقرّب من الأجهزة الأمنية، إلى تمرير جملة من التعديلات على الدستور المصري الصادر عام 2014، فالتعديلات الدستورية التي يناقشها المجلس لم تعرف مثلها الدساتير المصرية، منذ أول دستور مصري صدر عام 1882، وهي التي تعمل على إبقاء السيسي رئيسًا حتى 2034، الأمر الذي يعني تأبيدًا وتركيزًا للسلطة في قبضة الرئيس الفرد. وهذا بجانب إعطاء صلاحيات إضافية للمؤسسة العسكرية، تعزّز من مكانتها الخاصة، تشمل صون الدستور والديمقراطية وحمايتهما، والحفاظ على المقومات السياسية للدولة ومدنيتها، ما يعني "دسترة" للانقلابات العسكرية؛ أي جعلها مشرعنة دستوريًا.
وفي سياق متصل، تتزامن هذه التعدّيات على الدستور المصري مع حالة الصمت وغضّ الطرف، التي أصابت المجتمع الدولي تجاه انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، فالتواطؤ والتأييد واضحان من اليمين المتزايد السلطوية، والتشدد المهيمن حالياً في أوروبا والولايات المتحدة، الأمر الذي ساعد في إصرار السيسي على المضيّ في طريق الاستبداد الذي رسمه لنفسه، بالبقاء رئيسًا حتى الوفاة.
وقد عمدت سلطة الانقلاب، منذ وصولها إلى سدّة الحكم، وسعيها إلى تثبيت أركان حكمها، على ضرب كل من يعارضها، مهما صغر حجمه. وتدرجت سلطة العسكر في قمعها الدامي
المصريين، واتخذت أشكالًا عديدة. بدأت بالمذبحة في ميدان رابعة العدوية في القاهرة في صيف 2013؛ وهي الأكثر دمويةً في تاريخ مصر الحديث، وقد رافقتها شراسة غير مسبوقة من النظام، لإسكات حراك الجامعات؛ فإلى جانب الاعتقالات، وقرارات الفصل بحق الطلبة من الجامعة، قتل ما يزيد عن 20 طالبًا خلال أول عامين بعد الانقلاب. ومنذ ذلك الحين، عمل النظام المصري على وأد الحركات الشبابية والقوى الثورية، واعتقال قياداتها والتنكيل بهم. أضف إلى ذلك، فضّ الإضرابات والاعتصامات، وفصل الكوادر العمالية، وأحال بعضهم على محاكمات عسكرية. وكذلك، جرت محاولاتٌ ناجحةٌ في أغلبها من مخبري الدولة لتأميم النقابات المهنية، ومنظمات المجتمع المدني، وحصارها. وبموازاة ذلك، ضرب كل أشكال العمل الحزبي الرسمي المعارض.
تعتقد قوى الثورة المضادّة، كحال جميع الدكتاتوريات العسكرية، أن تفكيك مقومات العمل السياسي والاجتماعي والحقوقي والتنكيل بقياداتها، يحول حتماً دون حدوث انتفاضة جماهيرية. وتتبنّى السلطة عقيدة مفادها أن حالة الحراك الشعبي التي ظهرت خلال العقد الأخير من حكم حسني مبارك كانت المقدمة التي لولاها لما اندلعت ثورة يناير، وأن تراخي السيطرة الأمنية هو الذي مهّد للثورة المصرية، فقد جاء على لسان عبد الفتاح السيسي في واحدة من خطبه الركيكة: "الكلام اللي كان اتعمل من سبع تمن سنين مش هيتكرّر تاني في مصر".
كحال نظم حكم عسكرية كثيرة، لم تفهم سلطات القمع في مصر أن الثورات لا يتم صناعتها في مقارّ الأحزاب، ولا في اجتماعات النقابات المهنية، ولا بتضحياتٍ ثمينة من أفراد وحركات شبابية (على أهميتها)، فالهبّات الجماهيرية ليست فعلاً إرادياً للمشتغلين والمهتمين بالعمل العام في بلد مقموع يحكم بقوة السلاح، بل إن الانتفاضات الشعبية هي تعبير عن تحول حقيقي في الصراع السياسي والاجتماعي، يعود إلى الإصرار المنقطع النظير، من السلطة، على الاستمرار الفج في سياسات الإفقار والتهميش، ويتجسّد في اقتحام جماهير غفيرة قلب المشهد السياسي والاجتماعي.
حملت الأيام القليلة الماضية محاولاتٍ للاحتجاج خارج الأطر التقليدية للقوى السياسية، على
عكس توقعات الأجهزة الأمنية الساعية إلى استمرار حالة الجمود، ومنع حلحلة الأوضاع السياسية. أعقبت تلك التحرّكات حملات أمنية مسعورة، لاعتقال عديدين من الشباب الغاضب، بعد حرق العشرات في حادثة محطة مصر. يتواكب ذلك مع دعوات إطلاق الصافرات وقرع الأواني، في تعبير رمزي عن رفض النظام والرغبة في تغييره؛ نوعاً من أنواع تكتيكات "المقاومة اللاعنيفة" التي روّجها منظّر هذا النوع من المقاومة جين شارب؛ وكان لظهورها في بعض دول أميركا اللاتينية أثرٌ عظيمٌ في إنهاء أشكال الحكم العسكري، وفي صعود "المدّ الوردي".
... يصعب التنبؤ بما تؤول إليه التطورات في الأشهر القليلة المقبلة، إلا أن البلاد ستتعرّض لموجة غلاء جديدة، مؤكّد أنها ستصيب حياة غالبية المصريين بمزيدٍ من الشقاء؛ فبين استجابةٍ محسوسةٍ لدعوات إطلاق الصافرات، وقرع الأواني، من جهة، وتمرّد غير متوقع من مجموعات شبابية غير معروفة مسبقاً، من جهة ثانية، يبقى تحديد اتجاه صعود النضال الجماهيري واستمراره ضرباً من التنجيم. ولكن مشاهد تعديلات حسني مبارك الدستور عام 2007 لتوريث نجله جمال ما زالت في الأذهان، وهي التي حظيت بتأييد واسع من حاشية الحزب الوطني، لم تنتفع منه عائلة مبارك؛ فدستورهم المفصل لم يمنع قيام ثورة يناير. وتظل فسحة الأمل حيّة، فالمنطقة العربية، على الرغم من السلطوية الحاكمة لا تزال حبلى بآفاق التحول الديمقراطي. وقد شهدت الأسابيع الماضية موجةً جماهيريةً جديدة، بدأت بتحركاتٍ ضخمة في السودان، وتبعتها الجزائر، لتبرهن أن الثورة لا تزال خيارًا سياسيًا للشعوب، يُؤمل أن تكون ملهمة لنا ولغيرنا، وأن تحمل من الفرص ما تنكسر معه حالة الثبات والجمود.
تتزامن الحملات الأمنية أخيراً، وأدت إلى اعتقال شبابٍ عديدين مع سعي حثيث من مجلس النواب المقرّب من الأجهزة الأمنية، إلى تمرير جملة من التعديلات على الدستور المصري الصادر عام 2014، فالتعديلات الدستورية التي يناقشها المجلس لم تعرف مثلها الدساتير المصرية، منذ أول دستور مصري صدر عام 1882، وهي التي تعمل على إبقاء السيسي رئيسًا حتى 2034، الأمر الذي يعني تأبيدًا وتركيزًا للسلطة في قبضة الرئيس الفرد. وهذا بجانب إعطاء صلاحيات إضافية للمؤسسة العسكرية، تعزّز من مكانتها الخاصة، تشمل صون الدستور والديمقراطية وحمايتهما، والحفاظ على المقومات السياسية للدولة ومدنيتها، ما يعني "دسترة" للانقلابات العسكرية؛ أي جعلها مشرعنة دستوريًا.
وفي سياق متصل، تتزامن هذه التعدّيات على الدستور المصري مع حالة الصمت وغضّ الطرف، التي أصابت المجتمع الدولي تجاه انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، فالتواطؤ والتأييد واضحان من اليمين المتزايد السلطوية، والتشدد المهيمن حالياً في أوروبا والولايات المتحدة، الأمر الذي ساعد في إصرار السيسي على المضيّ في طريق الاستبداد الذي رسمه لنفسه، بالبقاء رئيسًا حتى الوفاة.
وقد عمدت سلطة الانقلاب، منذ وصولها إلى سدّة الحكم، وسعيها إلى تثبيت أركان حكمها، على ضرب كل من يعارضها، مهما صغر حجمه. وتدرجت سلطة العسكر في قمعها الدامي
تعتقد قوى الثورة المضادّة، كحال جميع الدكتاتوريات العسكرية، أن تفكيك مقومات العمل السياسي والاجتماعي والحقوقي والتنكيل بقياداتها، يحول حتماً دون حدوث انتفاضة جماهيرية. وتتبنّى السلطة عقيدة مفادها أن حالة الحراك الشعبي التي ظهرت خلال العقد الأخير من حكم حسني مبارك كانت المقدمة التي لولاها لما اندلعت ثورة يناير، وأن تراخي السيطرة الأمنية هو الذي مهّد للثورة المصرية، فقد جاء على لسان عبد الفتاح السيسي في واحدة من خطبه الركيكة: "الكلام اللي كان اتعمل من سبع تمن سنين مش هيتكرّر تاني في مصر".
كحال نظم حكم عسكرية كثيرة، لم تفهم سلطات القمع في مصر أن الثورات لا يتم صناعتها في مقارّ الأحزاب، ولا في اجتماعات النقابات المهنية، ولا بتضحياتٍ ثمينة من أفراد وحركات شبابية (على أهميتها)، فالهبّات الجماهيرية ليست فعلاً إرادياً للمشتغلين والمهتمين بالعمل العام في بلد مقموع يحكم بقوة السلاح، بل إن الانتفاضات الشعبية هي تعبير عن تحول حقيقي في الصراع السياسي والاجتماعي، يعود إلى الإصرار المنقطع النظير، من السلطة، على الاستمرار الفج في سياسات الإفقار والتهميش، ويتجسّد في اقتحام جماهير غفيرة قلب المشهد السياسي والاجتماعي.
حملت الأيام القليلة الماضية محاولاتٍ للاحتجاج خارج الأطر التقليدية للقوى السياسية، على
... يصعب التنبؤ بما تؤول إليه التطورات في الأشهر القليلة المقبلة، إلا أن البلاد ستتعرّض لموجة غلاء جديدة، مؤكّد أنها ستصيب حياة غالبية المصريين بمزيدٍ من الشقاء؛ فبين استجابةٍ محسوسةٍ لدعوات إطلاق الصافرات، وقرع الأواني، من جهة، وتمرّد غير متوقع من مجموعات شبابية غير معروفة مسبقاً، من جهة ثانية، يبقى تحديد اتجاه صعود النضال الجماهيري واستمراره ضرباً من التنجيم. ولكن مشاهد تعديلات حسني مبارك الدستور عام 2007 لتوريث نجله جمال ما زالت في الأذهان، وهي التي حظيت بتأييد واسع من حاشية الحزب الوطني، لم تنتفع منه عائلة مبارك؛ فدستورهم المفصل لم يمنع قيام ثورة يناير. وتظل فسحة الأمل حيّة، فالمنطقة العربية، على الرغم من السلطوية الحاكمة لا تزال حبلى بآفاق التحول الديمقراطي. وقد شهدت الأسابيع الماضية موجةً جماهيريةً جديدة، بدأت بتحركاتٍ ضخمة في السودان، وتبعتها الجزائر، لتبرهن أن الثورة لا تزال خيارًا سياسيًا للشعوب، يُؤمل أن تكون ملهمة لنا ولغيرنا، وأن تحمل من الفرص ما تنكسر معه حالة الثبات والجمود.
مقالات أخرى
30 سبتمبر 2017
03 سبتمبر 2017