أدّت الوزارة ما عليها تجاه الدولة، وأبرأ الوزير ذمّته أمام الحكومة، حين أعلن عن مبادرته "الثقافة في مواجهة الإرهاب" لمدة ليلة واحدة في كافّة محافظات مصر، استدعى فيها عشرات الكُتّاب والفنانين ورجال الدين؛ ليلقوا ما تيسر من "كلام" على أسماع من تيسر من "مدعوين" في ذمّ الإرهاب ومدح الجهود الأمنية في مواجهته، وذلك في سهرة رمضانية ثقافية، كان أصدق ما فيها وصلات الرقص والمَغْنَى لفرق الفنون الشعبية المُشاركة!
تثاقلت خطوات الصحافة والفضائيات في طريقها إلى تغطيه فعاليات المبادرة، فاكتفى معظمها بلقطات قصيرة ترصد افتتاح الوزير للندوة في أحد مسارح القاهرة. اقتنصت بعض الميكروفونات من الوزير حديثاً يعبر عن رؤيته للمبادرة، وكيف أنها تسعى لإعمال العقل في تغيير ما ترسخ من أفكار تتعلق بالإرهاب والتطرف والهدم، وقناعته بأن هذا الأمر يحتاج إلى جهد كبير، يكون عن طريق تقديم الإجابات الشافية على الأسئلة الشائكة، وتقديم أعمال فنية تساهم في حل الأزمة، وإيجاد نوع من الحوار المباشر بين المختصين وبين من تصيبهم هذه الضلالات، حسب تعبيره.
لم تكلّف وزارة الثقافة نفسها عناء مطالبة السادة المحاضرين بإجراء دراسات حول محاور الندوة، ذلك أنه لم تكن للندوة محاور أصلاً، فكل ما هنالك كان اتصالات هاتفية بالسادة المحاضرين، في معظم المحافظات، حيث تمّ إخبارهم بعنوان الندوة وموعدها "والباقي على الله"! وعندما يُستدعى المثقف الحكومي أو الأديب الرسمي لمثل هذا العمل بهذه الطريقة؛ فلا يُتَوَقع منه أن يبث وعياً في نفوس المتلقين وعقولهم، ولا هو مهموم أن يفعل ذلك، فهو نفسه لا يملك معلومات واضحة عن التطرّف والإرهاب وأسبابه أكثر مما يتلقاه من منشورات "الشؤون المعنوية"، أو بيانات "الأمن الوطني" عبر الصحف والفضائيات الموالية للنظام. وحتى لو كانت هناك عقول واعية منظمة مخلصة؛ فإنه لا ينتظر منها أن تقدم شيئاً في هذا السياق الارتجالي.
في بعض الكلمات؛ اكتفى المحاضرون بالتهديد والوعيد لكل من تسوّل له نفسه ممارسة الإرهاب وتهديد أمن الوطن! وكثر دوران العبارات الخطابية على طريقة: "المبادرة تعد محاولة لمواجهة كل قوى الظلام التي تريد أن تطفئ أنوار هذا الوطن... هذه المبادرة جاءت لقطع دابر الإرهاب" (محمّد عبد الحافظ ناصف - رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة). و"إن مصر هي رائدة الثقافة في الوطن العربي وقادرة على مواجهة الإرهاب بكل قوة" (محمد أبو الفضل بدران - أمين المجلس الأعلى للثقافة). و"إن ما يحاربنا اليوم هو عدو جبان أفعاله تجعلنا نلتف أكثر وبقوة وحب حول الوطن والقيادة السياسية" (سامح الصريطي- ممثل).
أما عن الوسيلة التي ستواجه بها وزارةُ الثقافة التطرفَ والإرهابَ وتقطع دابره؛ فلم تحظ مساحتها المخصصة إلا بكلام وعظي مكرور مثل: "ضرورة توضيح صورة الإسلام الحقيقية ومحاولة البعد عن الجماعات التي تتحدث باسم الدين وتشوّه صورته" (مصطفى العطفي – وكيل وزارة الأوقاف بالفيوم). من دون أن تحدد بدقة ما هي صورة الإسلام المطلوبة المرضي عنها لدى الحكومة!
وبينما أراد جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة، أن يقدم تجربته الرائدة في قمع الاحتجاجات الطلابية "ثقافياً" بجامعة القاهرة! تحدّث آخرون بعمومية شديدة عن الثقافة باعتبارها حائط صدّ أمام الأفكار المتطرفة، كحديث ثروت الخرباوي، الإخواني المنشق، عن "القوة الناعمة".
لم تستفد الوزارة حتى الآن من تجربة نظام مبارك في التسعينيات حين كان يبث ندوات ومناظرات تليفزيونية يؤتى فيها ببعض الشباب من السجون والمعتقلات، فيفحمهم المشايخ الوسطيون والمثقفون التنويريون؛ فيسقط الشاب تائباً أمامهم (من أوّل ندوة)!
وإذ تخلو المبادرة من وصف حالتي التطرف الفكري والإرهاب المستهدَفين رسمياً في الداخل المصري بدقة، فإنها تخلو أيضاً من مناقشة أفكار الخصوم المتهمين بالتطرف والإرهاب (الإسلاميين عموماً والإخوان المسلمين خاصّة)، حيث تظلّ أدبيات منظريهم منهلاً مترعاً للجميع. مثل "سيد قطب" الذي كان يعدّه شيخ الأزهر أحمد الطيب، حائط صد في مواجهة رياح التغريب الوافدة، ويمتدح كلامه عن العدالة الاجتماعية في الإسلام. بينما يراه مفتي الديار شوقي علام، ثرياً لدرجة تسمح له أن "يسرق" من مؤلفاته فقرات كاملة من دون أن يشير إلى مصدرها، ظناً منه أن أحداً لن ينتبه لذلك! (في فضيحة ليست من العيار الثقيل؛ لأن سرقة الآخرين تكررت من المفتي أكثر من مرة!).
أيضاً لم تتطرق المبادرة لمناقشة أفكار تنظيم "الدولة الإسلامية" وحججه في ممارساته الجزئية أو أفكاره الرئيسة حول ضرورة إعادة الخلافة الإسلامية وآليات هذه الإعادة! وهو التنظيم الذي يعلن أن دولته باقية وتتمدد، حتى وصلت للقاهرة، وأعلنت مسؤوليتها عن تفجير مبنى القنصلية الإيطالية بوسط القاهرة، بعد يوم واحدٍ فقط من الندوة (الناجحة) في مقاومة التطرف والإرهاب!
الجدية الغائبة في معالجة قضايا الإرهاب والتطرف، بسبب غياب الرؤية واختلاطها بالمشهد السياسي الملتبس في مصر، عبّرت عنها التغطية الإعلامية الهزيلة للمبادرة. أما الحكومة، مثلما هو الحال دائماً، فقد عبرت عن نجاح المبادرة جماهيرياً، وهو ما دعا السيد الوزير إلى أن يزف البشرى ويعلن بأن المرحلة الثانية من المبادرة ستنطلق مرة أخرى عقب عيد الفطر، وسط تساؤلات من صغار الموظفين بفروع وزارة الثقافة عن قيمة "البدلات" المادية المستحقة عن المبادرة، وموعد صرفها في هذه الأجواء الاقتصادية العصيبة التي تعيشها الأسرة المصرية الكادحة!
(كاتب مصري)
تثاقلت خطوات الصحافة والفضائيات في طريقها إلى تغطيه فعاليات المبادرة، فاكتفى معظمها بلقطات قصيرة ترصد افتتاح الوزير للندوة في أحد مسارح القاهرة. اقتنصت بعض الميكروفونات من الوزير حديثاً يعبر عن رؤيته للمبادرة، وكيف أنها تسعى لإعمال العقل في تغيير ما ترسخ من أفكار تتعلق بالإرهاب والتطرف والهدم، وقناعته بأن هذا الأمر يحتاج إلى جهد كبير، يكون عن طريق تقديم الإجابات الشافية على الأسئلة الشائكة، وتقديم أعمال فنية تساهم في حل الأزمة، وإيجاد نوع من الحوار المباشر بين المختصين وبين من تصيبهم هذه الضلالات، حسب تعبيره.
لم تكلّف وزارة الثقافة نفسها عناء مطالبة السادة المحاضرين بإجراء دراسات حول محاور الندوة، ذلك أنه لم تكن للندوة محاور أصلاً، فكل ما هنالك كان اتصالات هاتفية بالسادة المحاضرين، في معظم المحافظات، حيث تمّ إخبارهم بعنوان الندوة وموعدها "والباقي على الله"! وعندما يُستدعى المثقف الحكومي أو الأديب الرسمي لمثل هذا العمل بهذه الطريقة؛ فلا يُتَوَقع منه أن يبث وعياً في نفوس المتلقين وعقولهم، ولا هو مهموم أن يفعل ذلك، فهو نفسه لا يملك معلومات واضحة عن التطرّف والإرهاب وأسبابه أكثر مما يتلقاه من منشورات "الشؤون المعنوية"، أو بيانات "الأمن الوطني" عبر الصحف والفضائيات الموالية للنظام. وحتى لو كانت هناك عقول واعية منظمة مخلصة؛ فإنه لا ينتظر منها أن تقدم شيئاً في هذا السياق الارتجالي.
في بعض الكلمات؛ اكتفى المحاضرون بالتهديد والوعيد لكل من تسوّل له نفسه ممارسة الإرهاب وتهديد أمن الوطن! وكثر دوران العبارات الخطابية على طريقة: "المبادرة تعد محاولة لمواجهة كل قوى الظلام التي تريد أن تطفئ أنوار هذا الوطن... هذه المبادرة جاءت لقطع دابر الإرهاب" (محمّد عبد الحافظ ناصف - رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة). و"إن مصر هي رائدة الثقافة في الوطن العربي وقادرة على مواجهة الإرهاب بكل قوة" (محمد أبو الفضل بدران - أمين المجلس الأعلى للثقافة). و"إن ما يحاربنا اليوم هو عدو جبان أفعاله تجعلنا نلتف أكثر وبقوة وحب حول الوطن والقيادة السياسية" (سامح الصريطي- ممثل).
أما عن الوسيلة التي ستواجه بها وزارةُ الثقافة التطرفَ والإرهابَ وتقطع دابره؛ فلم تحظ مساحتها المخصصة إلا بكلام وعظي مكرور مثل: "ضرورة توضيح صورة الإسلام الحقيقية ومحاولة البعد عن الجماعات التي تتحدث باسم الدين وتشوّه صورته" (مصطفى العطفي – وكيل وزارة الأوقاف بالفيوم). من دون أن تحدد بدقة ما هي صورة الإسلام المطلوبة المرضي عنها لدى الحكومة!
وبينما أراد جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة، أن يقدم تجربته الرائدة في قمع الاحتجاجات الطلابية "ثقافياً" بجامعة القاهرة! تحدّث آخرون بعمومية شديدة عن الثقافة باعتبارها حائط صدّ أمام الأفكار المتطرفة، كحديث ثروت الخرباوي، الإخواني المنشق، عن "القوة الناعمة".
لم تستفد الوزارة حتى الآن من تجربة نظام مبارك في التسعينيات حين كان يبث ندوات ومناظرات تليفزيونية يؤتى فيها ببعض الشباب من السجون والمعتقلات، فيفحمهم المشايخ الوسطيون والمثقفون التنويريون؛ فيسقط الشاب تائباً أمامهم (من أوّل ندوة)!
وإذ تخلو المبادرة من وصف حالتي التطرف الفكري والإرهاب المستهدَفين رسمياً في الداخل المصري بدقة، فإنها تخلو أيضاً من مناقشة أفكار الخصوم المتهمين بالتطرف والإرهاب (الإسلاميين عموماً والإخوان المسلمين خاصّة)، حيث تظلّ أدبيات منظريهم منهلاً مترعاً للجميع. مثل "سيد قطب" الذي كان يعدّه شيخ الأزهر أحمد الطيب، حائط صد في مواجهة رياح التغريب الوافدة، ويمتدح كلامه عن العدالة الاجتماعية في الإسلام. بينما يراه مفتي الديار شوقي علام، ثرياً لدرجة تسمح له أن "يسرق" من مؤلفاته فقرات كاملة من دون أن يشير إلى مصدرها، ظناً منه أن أحداً لن ينتبه لذلك! (في فضيحة ليست من العيار الثقيل؛ لأن سرقة الآخرين تكررت من المفتي أكثر من مرة!).
أيضاً لم تتطرق المبادرة لمناقشة أفكار تنظيم "الدولة الإسلامية" وحججه في ممارساته الجزئية أو أفكاره الرئيسة حول ضرورة إعادة الخلافة الإسلامية وآليات هذه الإعادة! وهو التنظيم الذي يعلن أن دولته باقية وتتمدد، حتى وصلت للقاهرة، وأعلنت مسؤوليتها عن تفجير مبنى القنصلية الإيطالية بوسط القاهرة، بعد يوم واحدٍ فقط من الندوة (الناجحة) في مقاومة التطرف والإرهاب!
الجدية الغائبة في معالجة قضايا الإرهاب والتطرف، بسبب غياب الرؤية واختلاطها بالمشهد السياسي الملتبس في مصر، عبّرت عنها التغطية الإعلامية الهزيلة للمبادرة. أما الحكومة، مثلما هو الحال دائماً، فقد عبرت عن نجاح المبادرة جماهيرياً، وهو ما دعا السيد الوزير إلى أن يزف البشرى ويعلن بأن المرحلة الثانية من المبادرة ستنطلق مرة أخرى عقب عيد الفطر، وسط تساؤلات من صغار الموظفين بفروع وزارة الثقافة عن قيمة "البدلات" المادية المستحقة عن المبادرة، وموعد صرفها في هذه الأجواء الاقتصادية العصيبة التي تعيشها الأسرة المصرية الكادحة!
(كاتب مصري)