مصر: الإعلام مخدّراً وطنيّاً مجانيّاً

06 نوفمبر 2014

التلفزيون في العراء (Getty)

+ الخط -

يبدو الخبر الصغير، على عدم أهميته، مفزعاً. وسيلة إعلامية صغيرة تعلن عن نيتها إنتاح مواد "توعوية" عن أهمية القضاء العسكري. لم يعد هنالك ما يفاجئ في التدهور المريع للإعلام المصري، وتحوله منصة للدفاع عن أبشع أنواع الانتهاكات على أيدي النظام. إلا أن الوسيلة الإعلامية "التوعوية" تجاوزت في إبداعها في الدفاع عن النظام كل ما يمكن أن يتخيّله العقل. ما الذي ستحمله هذه المواد "التوعوية"؟ شرح "أهمية" محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، من دون احترامٍ لأدنى حقوقهم الإنسانية في محاكمة عادلة؟ أو شرح "أهمية" التوقيفات من دون محاكماتٍ، فتراتٍ، يتم تجديدها من دون أي اتهام؟ أو الدعوة إلى توقيف الصحافيين واعتقالهم اعتباطاً بتهمة القيام بمهامهم المهنية؟
يصلح الخبر، على غرابته، لأن يكون عنواناً للمرحلة بإعلامها التعبوي الشعبوي الهادر. لم يعد مسموحاً الاكتفاء بالوقوف على الهامش، من دون الابتكار في ممالأة النظام حماية لما يسميه "الأمن القومي". بعد الهجوم على قوات الأمن المصرية في سيناء، بدأت مرحلة جديدة في تكميم الأفواه، وصلت إلى حد إسكات كل صوت، ولو كان ناقداً على حذر، أو في مسائل جانبية، لا تمسّ أمن النظام. لا يعتبر مقدما التوك شو، محمود سعد ووائل الأبراشي، من المدافعين عن ثورة يناير، ولا من محبذي "الإخوان المسلمين"، وهما ليسا من المدافعين عن حقوق الإنسان، ولا من الساخطين على ارتكابات النظام. أخطأ محمود سعد في نظر النظام، عندما أشار إلى صورة لثوارٍ أصبحوا، اليوم، في السجن، مع وزير الدفاع السابق في حكومة الإخوان المسلمين، عبد الفتاح السيسي. أوقع الثاني نفسه في المتاعب، عندما تناول قضية وفاة مواطنة مصرية على باب مستشفى، رفض إدخالها، متسائلاً عن مسؤولية الوزارة المعنية. كلاهما قام بما يقتضيه التعريف البسيط للصحافة: طرح السؤال. في عهد تكميم الأفواه بحجة مقاومة الإرهاب، لم يعد هذا التقليد البديهي في ممارسة المهنة مسموحاً.


لا يمكن الحديث، اليوم، في مصر عن "قمع" للصحافة باعتبار أنها، أو على الأقل غالبيتها العظمى، سلّمت بضرورة إلغاء وجودها، تضامناً مع الحرب على الإرهاب، ودعماً لمعنويات الجيش الوطني وجهوده في مواجهة الخطر الكبير. كبار ناشري ورؤوساء تحرير الصحف والمحطات التلفزيونية أقروا بضرورة إلغاء دورهم برعاية نقابة الصحافيين. تحوّل النقاش الحامي حول صون الحريات الإعلامية في ظل "الإخوان"، بعدما تم تعظيم خطرهم على التجربة الديمقراطية الناشئة، إلى الدعوة إلى إلغاء الإعلام برمته، فقط لأنه قد يقوم بمهمته في طرح السؤال.
ليس هنالك في مصر، اليوم، حرباً على الإرهاب فحسب. إنها، أيضاً، حرب على المعرفة، على حق المواطن بالاطلاع على ملابسات ما يجري حوله، وحقه في محاسبة المسؤول، عندما يرتكب خطأ. إنها حرب على حق المواطن برواية إعلامية متنوعة ومنفتحة على العالم، لا تجعله في هوس عدائي مع الآخر، باعتبار أن هذا الآخر في الداخل أو في الخارج مصدر دائم للخطر. إنها حرب على حق المواطن بمساءلة النظام، عندما يرتكب انتهاكات من حجم الاعتقالات التعسفية بالآلاف، وإطلاق النار على متظاهرين سلميين، وسجن آخرين، أو توقيفهم اعتباطاً، لمجرد مطالبتهم بحقوقهم الأساسية، واختفاء آخرين في سجون سرية، بدعوى أنهم إرهابيون، وقمع طلاب الجامعات لمجرد تظاهرهم داخل حرم الجامعة، وإلى ما هنالك من انتهاكات يومية... إنها حرب على حق المواطن العادي في سيناء، بالسؤال عن سبب تهجيره من منزله وتدميره، والاعتقالات الاعتباطية في القرى وأعمال التعذيب المشينة في حق مدنيين عُزّل، كما أظهرتها شرائط "يوتيوب"، تداولها الإعلام الحديث عن تعذيب دموي على أيدي قوى الأمن، في إطار عمليات الجيش هناك، والقائمة طويلة...
ليس مقدم التوك شو، وائل الأبراشي، مدافعاً عن حقوق الإنسان، ولا هو معارض للنظام. ما قام به أنه طرح سؤالاً عن سبب وفاة مواطنة مصرية لعدم تلقيها أي معونة طبية، هو أبسط ما يفترض أن يقوم به أي صحافي: أن ينقل معاناة الناس، وأن يكون لسان حالهم في محاسبة المسؤول، أو على الاقل محاولة محاسبته. ولعل الإعلام المصري، في تنازله عن هذه المهمة البديهية، اكتشف مهمة جديدة له، تختصر دوره بالمخدر "الوطني" المجاني للشعب، ليواصل طريقه صامتاً وسعيداً بما تحمله له سياسات مكافحة الإرهاب كل يوم من صفعات جديدة.
لعلّ الوسيلة الإعلامية المصرية على حق، بمحاولتها "التوعية" حول "أهمية" القضاء العسكري. ولكن، قد يكون فعل التوعية الأكثر جدوى حالياً، وفي ظل هذه الظروف البائسة، التوعية حول "أهمية" إغلاق وسائل الإعلام نهائياً، عندما يصبح دورها مقتصراً على قرع مزعج لطبلة جوفاء. 
  

 

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.