15 نوفمبر 2024
مصالحة فتحاوية محتملة... وضارَّة
تتزايد المؤشرات على قرب حدوث مصالحة داخلية في حركة فتح، بين جناحي رئيس الحركة، الرئيس محمود عباس، والقيادي المفصول محمد دحلان. وقد أصدرت اللجنة المركزية للحركة بياناً، في الثاني والعشرين من الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، دعت فيه "أبناءها وكوادرها كافة لتعزيز وحدتهم وتعاضدهم وتضامنهم، والتعالي عن الخاص للعام، والتأكيد على أن أطرها ومؤسساتها مفتوحة أمام جميع أبنائها للتعامل مع المشاكل والعقبات كافة، وبما يشمل أصحاب التظلمات الذين اتخذت بحقهم إجراءات عقابية". ولم يكد يمضي يومان، حتى كان البيان الختامي للقمة التي جمعت الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بالعاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، في القاهرة، يعبّر عن تقديرهما "للرئيس الفلسطيني محمود عباس لاستجابته لدعوة لم الشمل الفلسطيني، وإصدار اللجنة المركزية لحركة فتح بياناً للتأكيد على دعوتها لإعادة أبنائها تحت مظلة الحركة، بما يخدم القضية الفلسطينية والوضع الداخلي الفلسطيني بشكل عام، خاصة في ظل المرحلة الدقيقة التي تمر بها القضية الفلسطينية في الوقت الراهن، والتي تتطلب وحدة الصف ودعم القوى المعتدلة لمواجهة الإرهاب". ومنذئذ توالت الأخبار عن جناحي الحركة المُخْتَصِمَيْنِ، عن إعادة المفصولين، من تيار دحلان، في الأسابيع المقبلة، وإعادة رواتبهم، والسماح بعودتهم إلى رام الله. وتتحدث مصادر مقربة من دحلان عن عودته إلى رام الله قبل نهاية العام، وإنْ تتحدّث مصادر مقربة من عباس عن عودته قيادياً في "فتح"، ونائباً في المجلس التشريعي عنها، وليس عضواً في اللجنة المركزية، من دون حرمانه من حق الترشح في مؤتمر الحركة السابع.
جاء رضوخ جناح عباس لمطالب المصالحة الفتحاوية، بعد مقاومةٍ دامت سنوات، نتيجة ضغوط محور عربي نافذ (مصر، الأردن، الإمارات العربية، بإسناد سعودي). وفي التفاصيل أن موفدا رئاسياً مصرياً زار رام الله قبل أسابيع، حاملا هذا الملف، تحديدا إلى عباس، ثم زار خمسة من أعضاء اللجنة المركزية لفتح القاهرة، لوضع تفاصيل المصالحة. وكان عبد الفتاح السيسي قد دعا، في مقابلة مع رؤساء تحرير الصحف المصرية، قبل يوم من بيان اللجنة المركزية، حركة فتح إلى إعادة توحيد صفوفها. ودليلاً على أن هذه المصالحة لم تأت نتيجة قناعة مؤسسية فتحاوية، فإن اللجنة المركزية كانت قد أصدرت بياناً، أواخر العام الماضي، أكّد أن قرار فصل دحلان في 2011 "نهائي ولا رجعة عنه"، وأن أي حديث عن "مصالحاتٍ يرد فيها دحلان ليست أكثر من مجرد أوهام". بل أعاد ذلك البيان تأكيد الاتهامات بحق دحلان عن "التجاوزات المالية"، و"وجود ملفات اغتيالٍ متهم فيها"، وبالتالي، فإن "محاولات تزوير القضية، باعتبارها خلافا شخصياً، غايتها التشويش".
ثمّة سؤالان تطرحهما التطورات الأخيرة، الأول يتعلق بخلفيات تحرّك أضلاع المحور الأربعة،
معا هذه المرة، لإقناع، أو قل، إرغام، عباس على قبول المصالحة مع دحلان، وهو من رفض، من قبل، ضغوطاً إماراتية ومصرية وأردنية سابقة؟ والثاني، مرتبط بمخاطر اتفاقٍ كهذا إذا تمّ؟
في ما يتعلق بالأول، يمكن رصد جملة من الأسباب الرئيسة: أولاً، التحضير المبكّر لمرحلة ما بعد عباس الذي تجاوز عتبة الثمانين، وتشير تقارير كثيرة إلى متاعبه الصحية. وهو الذي، منذ تولى رئاسة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية أواخر عام 2004، ثم السلطة مطلع عام 2005، لم يسمح بظهور أي شخصيةٍ تنافسه من داخل الحركة أو السلطة والمنظمة، فعمل على التخلص من منافسيه واحدا واحدا. فتخلص، مثلا، من القيادي التاريخي في "فتح" ومنظمة التحرير، فاروق القدومي، عام 2009، والذي خرج من اللجنة المركزية للحركة، وتم إعفاؤه من رئاسة الدائرة السياسية في المنظمة. ثمّ تخلص من رئيس وزرائه، سلام فياض، عام 2013، بعد أن كثر الحديث، إسرائيليا وعربيا وأميركيا، عن إمكانية أن يكون رئيس السلطة المقبل. وكان سبق القول عن تخلصه من دحلان عام 2011، بعد اتهامه بالتآمر ومحاولة الانقلاب. ومعروف أن ثلاثة، على الأقل، من أضلاع المحور العربي الأربعة (مصر والأردن والإمارات)، ترى في دحلان الأنسب والأقوى لقيادة حركة فتح والسلطة الفلسطينية، أو على الأقل أن يكون رمزاً فاعلا فيهما. ولا تريد هذه الدول أن يُحْدِثَ غياب مفاجئ لعباس فوضى داخل "فتح" وداخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما قد يؤدي إلى صراع قيادات فتحاوية وأمنية على الزعامة.
ثانياً، خشية الأضلاع الأربعة من حدوث فراغ مفاجئ في رأس حركة فتح والسلطة مردّها أن هذا قد يقود إلى تعزيز موقع حركة حماس ودورها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا لن يسمح به هؤلاء، وبأي ثمن، خصوصاً أن الموقفين، الإسرائيلي والأميركي، متسق مع موقفهم كلياً. فأعلنت الأضلاع الأربعة حرباً صريحة، تتفاوت درجاتها وصورها، على جماعة الإخوان المسلمين في مرحلة ما بعد الثورات العربية، وحماس، باعتبارها من أجنحة "الإخوان"، تدخل في خانة أعدائهم، مرة أخرى مع تفاوتٍ في الدرجات وأساليب التعامل. ويكفي التذكير، هنا، بقول أحد مساعدي وزير الخارجية الأميركي، خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، صيف عام 2014، إن الوزير جون كيري فوجئ، في جولته في المنطقة لمحاولة التوصل إلى هدنة بين حماس وإسرائيل، من ضغوط دول عربية عليه لترك إسرائيل تكمل مهمة سحق حماس. ومع قرب الانتخابات المحلية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة الشهر المقبل، فإن أضلاع المحور العربي لا تريد أن ترى فوزاً لحركة حماس، كما جرى في انتخابات 2006 التشريعية، فذلك قد يرسل إشارة بأن جماعة الإخوان المسلمين ما زال فيها نبض حيٌّ بعد سنوات من الاستهداف ومحاولات الاستئصال الوحشي، خصوصا في مصر.
ثالثاً، رغبة هذا المحور في بَثِّ الحياة في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، المتوقفة جرّاء سياسات حكومة نتنياهو، وواضح أن أضلاع المحور تريد "سلاما" مع إسرائيل، أياً كان ثمنه، ويرون أن عباس فقد المرونة المطلوبة لتحقيق ذلك. محاولات تنفيس الاحتقانات العربية الداخلية، وتقديم أوراق الاعتماد لأميركا عبر البوابة الفلسطينية، أمران قديمان، لكن الجديد أنه، في ظل الأزمات التي تطحن بعض الدول العربية، كمصر والأردن، وفي ظل قلق السعودية من تصاعد الخطر الإيراني، وشَطَط الإمارات في الحرب على "الإخوان المسلمين" إقليمياً، تصبح إسرائيل هنا ليست بوابةً لأميركا فحسب، بل وحليفاً مرتجى. وبهذا، فإن عباس، حسب مقاربة الأضلاع الأربعة، وعلى الرغم من خضوعه، هو الآخر، لابتزاز إسرائيل وسقوفها، غير أنه أصبح عقبةً أمام التحالف مع إسرائيل، ذلك أن سقفه المتدنّي فلسطينياً، حقوقياً وسياسياً، لا زال مرتفعاً في نظر إسرائيل التي تتمنع الآن على الجميع، وتطالبهم بتنازلات فوق التنازلات.
في ما يتعلق بالسؤال الثاني، أي مصالحة بين جناحي عباس ودحلان تحمل مخاطر على القضية الفلسطينية أكثر مما تحمله من بشائر؟ لا شك أن مصالحات فلسطينية-فلسطينية مطلوبة، داخل "فتح" وبين الفصائل ومع السلطة، وكذلك بين كل شرائح المجتمع ومعه، غير أن أي مصالحةٍ ينبغي أن تكون على أرضيةٍ سليمةٍ لا على جرف هارٍ. وتجربة تحالف عباس-دحلان تنبئنا أن هذا الثنائي لا يتحالف إلا على ما فيه إضرار بالقضية الفلسطينية. فبعد محاصرة إسرائيل الرئيس الراحل، ياسر عرفات، عام 2002 في مقر المقاطعة في رام الله، تشكّل حلف بينهما ضده. وعندما أُرْغِمَ عرفات، أميركياً وإسرائيلياً وعربياً، على القبول بعباس رئيساً للوزراء عام 2003، أصر الأخير، بدعم الأطراف السابقة، على نزع صلاحيات عرفات الأمنية والمالية لقصقصة أدوات نفوذه. فكان دحلان وزيراً للأمن الداخلي، على الرغم من معارضة عرفات، وفياض للمالية. وعندما أُرْغِمَ عباس على الاستقالة عام 2003، قاطع هو ودحلان عرفات، وبقيا يحرضان عليه حتى استشهاده أواخر عام 2004. وبعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية مطلع عام 2006، وفازت فيها "حماس" بشكل ساحق، تآمر عباس ودحلان عليها، فعمل عباس على سحب الصلاحيات الدستورية، كما ينص عليها "القانون الأساسي الفلسطيني"، وخصوصاً الأمنية التي حارب عباس عرفات عليها خلال رئاسته للوزراء، من رئيس الحكومة المنتخب حينها، إسماعيل هنية. في حين اشتغل دحلان في إثارة القلاقل الأمنية في قطاع غزة عبر أذرعه وأدواته فيه. وللتذكير، كان ما يسمى "الانقسام الفلسطيني" بعد سيطرة حماس على قطاع غزة في يونيو/ حزيران 2007، تصدياً من الحركة، كحكومة شرعية، لمحاولات دحلان والأجهزة الأمنية المرتبطة به، بدعم مباشر من ضلعين من أربعةٍ في المحور العربي الحالي المشار إليه، الانقلاب على الحكومة المنتخبة، ولم يكن في ذهنها أبداً السيطرة على القطاع، بل إنها دعت عباس إلى تسلمه مباشرة، ورفض.
قبل بضع سنوات، سُرِّبَ تسجيل صوتي لكبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، ينتقد فيه، ويا للمفارقة، أسلوب عباس التفاوضي، وكان مما قاله عريقات حينها، محيلاً إلى عباس غير الحاضر في اللقاء: "هذه مش مزرعة أبوك.. هذا وطن.. هذه فلسطين.. هذه أكبر من أشخاص..". نعم، فلسطين ليست "مزرعة" عباس ولا دحلان ولا حتى عريقات، أو حتى أي شخص أو فصيل فلسطيني آخر. فلسطين وطن، وقضية عادلة، ولا تستحق أن يتنافس على قيادتها عجوز فاقد الأمل والإيمان بطاقات شعبة وعدالة قضيته، وآخر، لم يبق جهاز مخابراتي أساسي في العالم لم يُتَّهَمْ بالعمالة له، أو فوضى وتآمر لم ترشح معلومات عن تورط له فيهما. أيضا، فلسطين أشرف من أن تصبح مدخلاً لتقديم أوراق اعتماد لأنظمة طاشت بوصلتها. من أجل ذلك كله، نقول: نرحب بالمصالحات الفلسطينية-الفلسطينية، ولكن على أساس فلسطين وقضيتها، وليس المتاجرة بهما.
جاء رضوخ جناح عباس لمطالب المصالحة الفتحاوية، بعد مقاومةٍ دامت سنوات، نتيجة ضغوط محور عربي نافذ (مصر، الأردن، الإمارات العربية، بإسناد سعودي). وفي التفاصيل أن موفدا رئاسياً مصرياً زار رام الله قبل أسابيع، حاملا هذا الملف، تحديدا إلى عباس، ثم زار خمسة من أعضاء اللجنة المركزية لفتح القاهرة، لوضع تفاصيل المصالحة. وكان عبد الفتاح السيسي قد دعا، في مقابلة مع رؤساء تحرير الصحف المصرية، قبل يوم من بيان اللجنة المركزية، حركة فتح إلى إعادة توحيد صفوفها. ودليلاً على أن هذه المصالحة لم تأت نتيجة قناعة مؤسسية فتحاوية، فإن اللجنة المركزية كانت قد أصدرت بياناً، أواخر العام الماضي، أكّد أن قرار فصل دحلان في 2011 "نهائي ولا رجعة عنه"، وأن أي حديث عن "مصالحاتٍ يرد فيها دحلان ليست أكثر من مجرد أوهام". بل أعاد ذلك البيان تأكيد الاتهامات بحق دحلان عن "التجاوزات المالية"، و"وجود ملفات اغتيالٍ متهم فيها"، وبالتالي، فإن "محاولات تزوير القضية، باعتبارها خلافا شخصياً، غايتها التشويش".
ثمّة سؤالان تطرحهما التطورات الأخيرة، الأول يتعلق بخلفيات تحرّك أضلاع المحور الأربعة،
في ما يتعلق بالأول، يمكن رصد جملة من الأسباب الرئيسة: أولاً، التحضير المبكّر لمرحلة ما بعد عباس الذي تجاوز عتبة الثمانين، وتشير تقارير كثيرة إلى متاعبه الصحية. وهو الذي، منذ تولى رئاسة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية أواخر عام 2004، ثم السلطة مطلع عام 2005، لم يسمح بظهور أي شخصيةٍ تنافسه من داخل الحركة أو السلطة والمنظمة، فعمل على التخلص من منافسيه واحدا واحدا. فتخلص، مثلا، من القيادي التاريخي في "فتح" ومنظمة التحرير، فاروق القدومي، عام 2009، والذي خرج من اللجنة المركزية للحركة، وتم إعفاؤه من رئاسة الدائرة السياسية في المنظمة. ثمّ تخلص من رئيس وزرائه، سلام فياض، عام 2013، بعد أن كثر الحديث، إسرائيليا وعربيا وأميركيا، عن إمكانية أن يكون رئيس السلطة المقبل. وكان سبق القول عن تخلصه من دحلان عام 2011، بعد اتهامه بالتآمر ومحاولة الانقلاب. ومعروف أن ثلاثة، على الأقل، من أضلاع المحور العربي الأربعة (مصر والأردن والإمارات)، ترى في دحلان الأنسب والأقوى لقيادة حركة فتح والسلطة الفلسطينية، أو على الأقل أن يكون رمزاً فاعلا فيهما. ولا تريد هذه الدول أن يُحْدِثَ غياب مفاجئ لعباس فوضى داخل "فتح" وداخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما قد يؤدي إلى صراع قيادات فتحاوية وأمنية على الزعامة.
ثانياً، خشية الأضلاع الأربعة من حدوث فراغ مفاجئ في رأس حركة فتح والسلطة مردّها أن هذا قد يقود إلى تعزيز موقع حركة حماس ودورها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا لن يسمح به هؤلاء، وبأي ثمن، خصوصاً أن الموقفين، الإسرائيلي والأميركي، متسق مع موقفهم كلياً. فأعلنت الأضلاع الأربعة حرباً صريحة، تتفاوت درجاتها وصورها، على جماعة الإخوان المسلمين في مرحلة ما بعد الثورات العربية، وحماس، باعتبارها من أجنحة "الإخوان"، تدخل في خانة أعدائهم، مرة أخرى مع تفاوتٍ في الدرجات وأساليب التعامل. ويكفي التذكير، هنا، بقول أحد مساعدي وزير الخارجية الأميركي، خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، صيف عام 2014، إن الوزير جون كيري فوجئ، في جولته في المنطقة لمحاولة التوصل إلى هدنة بين حماس وإسرائيل، من ضغوط دول عربية عليه لترك إسرائيل تكمل مهمة سحق حماس. ومع قرب الانتخابات المحلية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة الشهر المقبل، فإن أضلاع المحور العربي لا تريد أن ترى فوزاً لحركة حماس، كما جرى في انتخابات 2006 التشريعية، فذلك قد يرسل إشارة بأن جماعة الإخوان المسلمين ما زال فيها نبض حيٌّ بعد سنوات من الاستهداف ومحاولات الاستئصال الوحشي، خصوصا في مصر.
ثالثاً، رغبة هذا المحور في بَثِّ الحياة في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، المتوقفة جرّاء سياسات حكومة نتنياهو، وواضح أن أضلاع المحور تريد "سلاما" مع إسرائيل، أياً كان ثمنه، ويرون أن عباس فقد المرونة المطلوبة لتحقيق ذلك. محاولات تنفيس الاحتقانات العربية الداخلية، وتقديم أوراق الاعتماد لأميركا عبر البوابة الفلسطينية، أمران قديمان، لكن الجديد أنه، في ظل الأزمات التي تطحن بعض الدول العربية، كمصر والأردن، وفي ظل قلق السعودية من تصاعد الخطر الإيراني، وشَطَط الإمارات في الحرب على "الإخوان المسلمين" إقليمياً، تصبح إسرائيل هنا ليست بوابةً لأميركا فحسب، بل وحليفاً مرتجى. وبهذا، فإن عباس، حسب مقاربة الأضلاع الأربعة، وعلى الرغم من خضوعه، هو الآخر، لابتزاز إسرائيل وسقوفها، غير أنه أصبح عقبةً أمام التحالف مع إسرائيل، ذلك أن سقفه المتدنّي فلسطينياً، حقوقياً وسياسياً، لا زال مرتفعاً في نظر إسرائيل التي تتمنع الآن على الجميع، وتطالبهم بتنازلات فوق التنازلات.
في ما يتعلق بالسؤال الثاني، أي مصالحة بين جناحي عباس ودحلان تحمل مخاطر على القضية الفلسطينية أكثر مما تحمله من بشائر؟ لا شك أن مصالحات فلسطينية-فلسطينية مطلوبة، داخل "فتح" وبين الفصائل ومع السلطة، وكذلك بين كل شرائح المجتمع ومعه، غير أن أي مصالحةٍ ينبغي أن تكون على أرضيةٍ سليمةٍ لا على جرف هارٍ. وتجربة تحالف عباس-دحلان تنبئنا أن هذا الثنائي لا يتحالف إلا على ما فيه إضرار بالقضية الفلسطينية. فبعد محاصرة إسرائيل الرئيس الراحل، ياسر عرفات، عام 2002 في مقر المقاطعة في رام الله، تشكّل حلف بينهما ضده. وعندما أُرْغِمَ عرفات، أميركياً وإسرائيلياً وعربياً، على القبول بعباس رئيساً للوزراء عام 2003، أصر الأخير، بدعم الأطراف السابقة، على نزع صلاحيات عرفات الأمنية والمالية لقصقصة أدوات نفوذه. فكان دحلان وزيراً للأمن الداخلي، على الرغم من معارضة عرفات، وفياض للمالية. وعندما أُرْغِمَ عباس على الاستقالة عام 2003، قاطع هو ودحلان عرفات، وبقيا يحرضان عليه حتى استشهاده أواخر عام 2004. وبعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية مطلع عام 2006، وفازت فيها "حماس" بشكل ساحق، تآمر عباس ودحلان عليها، فعمل عباس على سحب الصلاحيات الدستورية، كما ينص عليها "القانون الأساسي الفلسطيني"، وخصوصاً الأمنية التي حارب عباس عرفات عليها خلال رئاسته للوزراء، من رئيس الحكومة المنتخب حينها، إسماعيل هنية. في حين اشتغل دحلان في إثارة القلاقل الأمنية في قطاع غزة عبر أذرعه وأدواته فيه. وللتذكير، كان ما يسمى "الانقسام الفلسطيني" بعد سيطرة حماس على قطاع غزة في يونيو/ حزيران 2007، تصدياً من الحركة، كحكومة شرعية، لمحاولات دحلان والأجهزة الأمنية المرتبطة به، بدعم مباشر من ضلعين من أربعةٍ في المحور العربي الحالي المشار إليه، الانقلاب على الحكومة المنتخبة، ولم يكن في ذهنها أبداً السيطرة على القطاع، بل إنها دعت عباس إلى تسلمه مباشرة، ورفض.
قبل بضع سنوات، سُرِّبَ تسجيل صوتي لكبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، ينتقد فيه، ويا للمفارقة، أسلوب عباس التفاوضي، وكان مما قاله عريقات حينها، محيلاً إلى عباس غير الحاضر في اللقاء: "هذه مش مزرعة أبوك.. هذا وطن.. هذه فلسطين.. هذه أكبر من أشخاص..". نعم، فلسطين ليست "مزرعة" عباس ولا دحلان ولا حتى عريقات، أو حتى أي شخص أو فصيل فلسطيني آخر. فلسطين وطن، وقضية عادلة، ولا تستحق أن يتنافس على قيادتها عجوز فاقد الأمل والإيمان بطاقات شعبة وعدالة قضيته، وآخر، لم يبق جهاز مخابراتي أساسي في العالم لم يُتَّهَمْ بالعمالة له، أو فوضى وتآمر لم ترشح معلومات عن تورط له فيهما. أيضا، فلسطين أشرف من أن تصبح مدخلاً لتقديم أوراق اعتماد لأنظمة طاشت بوصلتها. من أجل ذلك كله، نقول: نرحب بالمصالحات الفلسطينية-الفلسطينية، ولكن على أساس فلسطين وقضيتها، وليس المتاجرة بهما.