23 يناير 2020
مشايخ أم مواطنون في الثورة السورية؟
تابعت الجماعات الإسلامية في غوطة دمشق القتال ضد أطرافها منذ أواخر إبريل/ نيسان الماضي، لكن قتالها الذي لم يتوقف، حتى قبل أيام، انتهى إلى استفادة النظام منه، ودخوله أكثر من اثنتي عشرة بلدة في القطاع الجنوبي للغوطة التي تضم مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، المنتجة للقمح خصوصاً، وتعتبر خزاناً غذائياً لدمشق وريفها، وحاضنة سكانية مهمة، ما تسبب في خسارةٍ عسكريةٍ كبرى للمعارضة، وموجة نزوح أخرى للعائلات، أضافت مآسيَ جديدة إلى ما تراكم من مآسي ذلك الريف.
وكانت تلك الجماعات التي يشكل "جيش الاسلام" و"فيلق الرحمن" و"جيش الفسطاط" أكبر قواها، قد بدأت صراعها، بعد موجةٍ من حرب البيانات والبيانات المضادة، تركّزت على مطالبة بين أطرافها بتسليم متهمين باغتيالاتٍ ومحاولات اغتيالاتٍ فيما بينها، وخصوصا من "جيش الإسلام" الذي انتشر وسيطر على معظم مناطق الغوطة الشرقية، منذ نهاية العام الثاني للثورة، واتهمه كثيرون بمارسات مستنكرة، من أشهرها اتهامه باختطاف الناشطة الحقوقية رزان زيتونة وزملائها الثلاثة، ولم يستجب قائده الراحل، زهران علوش، لجميع المطالبات بتحقيق حيادي ومستقل في المسألة.
تعارض الجماعات المذكورة كلها النظام وتعلن ذلك، وترفع راية الإسلام، كما هو معروف عنها، وواضح من تسمياتها، وهي لا تختلف، في تلك المرجعية وأهدافها، لكنها ذهبت في الخلاف فيما بينها إلى حد خطف رجالاتها وقادتها، كما استبدّت بشؤون الناس في مناطقها إلى درجة إقامة سجونٍ غدت أسماؤها تضاهي شهرة سجون النظام، مثل سجني الباطون والتوبة.
ولم تمنع مرجعية الإسلام الصراع بين قادة هذه الجماعات، كما لم يمنعهم من ذلك عداؤهم للنظام، وقد خالفوا أبسط شروط الوحدة في المعركة ضد العدو المشترك، فقدّموا مناطقهم وسكانها ضحيةً سائغةً له، بعد أن استخدموا كل صنوف أسلحتهم المتوفرة ضد بعضهم بعضاً، فذهب ضحية صراعهم ما يزيد على خمسمئة مقاتل ومدني، فضلا عن التدمير والخراب الذي أضاف مزيداً إلى خراب الغوطة ودمارها السابق الحاصل على يد النظام.
وطوال ذلك الصراع، لم يسأل قادة هذه الجماعات عن المستفيد منه، ولم يتوقفوا عن زج مزيد من الشبان والمقاتلين ضد بعضهم. وعلى الرغم من أن معظم قادتهم من المشايخ، فإن ذلك لم يمنعهم من التعصب لرأيهم، والانغلاق على نمط تفسيراتهم، والإصرار على انفرادهم بتسيير أمور مناطقهم، فصارت قضيتهم هي الاستبداد بأوضاعها، على شاكلة استبداد النظام بمناطقه، لا فرق بينهم وبينه في النتيجة.
وذلك الاستبداد مرتبط لا بهيبة التسميات الخاصة بكل منها فحسب، والتي تضفي على كل منها ارتباطاً بالمقدسات، بل هو مرتبط، أيضاً، بالهالة الدينية والاجتماعية لقادتها من المشايخ، فتلك الهالة تحظى بهيبةٍ تكاد تماثل هيبة المقدّس دينياً، وهو أمر يرتفع فوق كل بحثٍ أو محاولة استقراء للوقائع، قد تكون مختلفةً ومتجدّدة، ولا خبرة سابقة بشأنها، الأمر الذي يفترض اللجوء إلى السياسة المدنية، بوصفها إدارة للشأن العام، لا إلى المرجعيات بهيبتها الدينية أو طيفها المهيمن اجتماعياً، وإلى إدارةٍ لا يكون الرأي والقيادة فيها للشيخ بصفته داعية دين، بل بصفته مواطناً مشاركاً مع غيره من المواطنين في الرأي والتدبير. عندها، ستواجه هذه الجماعات حقيقة أن الديمقراطية، بما تتيحه من تشاور وتداول على الأقل، وعلى الرغم من كل موقف تقليدي مسبق منها، هي الوسيلة الأنجع لإدارة شؤون جماعاتهم ومناطقها، وذلك فوق كونها هدفاً للتغيير الوطني الذي خرج شباب الثورة السلمية من أجله.
ولا تتعلق الدروس التي يفترض استخلاصها اليوم بتجربة مشاركة الإسلاميين في الثورة السورية، تيارات ومنظمات وأفكاراً، وهي مشاركة ضرورية ومطروحة على قدم المساواة مع غيرهم من مختلف التيارات السورية، لكنها تتعلق بطبيعة القصور الذي أدّى إليه توظيفهم المرجعيات واستلهاماتها، وهي استلهامات كان قد تصاعد تأثيرها في ظل تعاظم بؤس السوريين وفئاتهم المهمشة، ولجوئهم العفوي إلى تلك المرجعيات، هرباً من عنف النظام وعصبويته التشبيحية، لكنها، أي الاستلهامات، إذا كانت قد لبت حاجات اللجوء والتضامن في مرحلةٍ ما، فلم تكن لتحل مشكلات الواقع والحرب المعقدة مع النظام، ولم تتمكّن من توحيد مواقف الجماعات المتجاورة في البيئة وتحت اللافتة نفسها، وهو توحيد تتطلبه أولويات المعركة أيضاً، لكنها كانت تغطي دوماً تلبية المصالح الذاتية، والارتباطات الضيقة لقادة الجماعات، فضلاً عن نزعات الممولين والداعمين. والأمثلة لا تعد ولا تحصى على صغر الخلافات والنزاعات التي تكاد تكون شخصيةً بين أولئك القادة، لكنها صارت بلا قيمة اليوم مقابل الخسارة العسكرية التي تسببت بها أمام قوات النظام.
بذلك، يكون ما حدث في غوطة دمشق اختباراً جديداً لمشاركة الإسلاميين في الثورة السورية، لكنه الاختبارالميداني الأخطر، نظراً لتداعياته الكبيرة، وتأثيراتها على مسار الصراع العسكري، في مرحلةٍ حرجة، يحاول فيها النظام، مع حلفائه، تغيير موازين القوى ميدانياً، بهدف فرض اتجاه آخر للحل السياسي، يعيد إنتاج النظام، ويهدّد كل آمال السوريين في التغيير.
وكانت تلك الجماعات التي يشكل "جيش الاسلام" و"فيلق الرحمن" و"جيش الفسطاط" أكبر قواها، قد بدأت صراعها، بعد موجةٍ من حرب البيانات والبيانات المضادة، تركّزت على مطالبة بين أطرافها بتسليم متهمين باغتيالاتٍ ومحاولات اغتيالاتٍ فيما بينها، وخصوصا من "جيش الإسلام" الذي انتشر وسيطر على معظم مناطق الغوطة الشرقية، منذ نهاية العام الثاني للثورة، واتهمه كثيرون بمارسات مستنكرة، من أشهرها اتهامه باختطاف الناشطة الحقوقية رزان زيتونة وزملائها الثلاثة، ولم يستجب قائده الراحل، زهران علوش، لجميع المطالبات بتحقيق حيادي ومستقل في المسألة.
تعارض الجماعات المذكورة كلها النظام وتعلن ذلك، وترفع راية الإسلام، كما هو معروف عنها، وواضح من تسمياتها، وهي لا تختلف، في تلك المرجعية وأهدافها، لكنها ذهبت في الخلاف فيما بينها إلى حد خطف رجالاتها وقادتها، كما استبدّت بشؤون الناس في مناطقها إلى درجة إقامة سجونٍ غدت أسماؤها تضاهي شهرة سجون النظام، مثل سجني الباطون والتوبة.
ولم تمنع مرجعية الإسلام الصراع بين قادة هذه الجماعات، كما لم يمنعهم من ذلك عداؤهم للنظام، وقد خالفوا أبسط شروط الوحدة في المعركة ضد العدو المشترك، فقدّموا مناطقهم وسكانها ضحيةً سائغةً له، بعد أن استخدموا كل صنوف أسلحتهم المتوفرة ضد بعضهم بعضاً، فذهب ضحية صراعهم ما يزيد على خمسمئة مقاتل ومدني، فضلا عن التدمير والخراب الذي أضاف مزيداً إلى خراب الغوطة ودمارها السابق الحاصل على يد النظام.
وطوال ذلك الصراع، لم يسأل قادة هذه الجماعات عن المستفيد منه، ولم يتوقفوا عن زج مزيد من الشبان والمقاتلين ضد بعضهم. وعلى الرغم من أن معظم قادتهم من المشايخ، فإن ذلك لم يمنعهم من التعصب لرأيهم، والانغلاق على نمط تفسيراتهم، والإصرار على انفرادهم بتسيير أمور مناطقهم، فصارت قضيتهم هي الاستبداد بأوضاعها، على شاكلة استبداد النظام بمناطقه، لا فرق بينهم وبينه في النتيجة.
وذلك الاستبداد مرتبط لا بهيبة التسميات الخاصة بكل منها فحسب، والتي تضفي على كل منها ارتباطاً بالمقدسات، بل هو مرتبط، أيضاً، بالهالة الدينية والاجتماعية لقادتها من المشايخ، فتلك الهالة تحظى بهيبةٍ تكاد تماثل هيبة المقدّس دينياً، وهو أمر يرتفع فوق كل بحثٍ أو محاولة استقراء للوقائع، قد تكون مختلفةً ومتجدّدة، ولا خبرة سابقة بشأنها، الأمر الذي يفترض اللجوء إلى السياسة المدنية، بوصفها إدارة للشأن العام، لا إلى المرجعيات بهيبتها الدينية أو طيفها المهيمن اجتماعياً، وإلى إدارةٍ لا يكون الرأي والقيادة فيها للشيخ بصفته داعية دين، بل بصفته مواطناً مشاركاً مع غيره من المواطنين في الرأي والتدبير. عندها، ستواجه هذه الجماعات حقيقة أن الديمقراطية، بما تتيحه من تشاور وتداول على الأقل، وعلى الرغم من كل موقف تقليدي مسبق منها، هي الوسيلة الأنجع لإدارة شؤون جماعاتهم ومناطقها، وذلك فوق كونها هدفاً للتغيير الوطني الذي خرج شباب الثورة السلمية من أجله.
ولا تتعلق الدروس التي يفترض استخلاصها اليوم بتجربة مشاركة الإسلاميين في الثورة السورية، تيارات ومنظمات وأفكاراً، وهي مشاركة ضرورية ومطروحة على قدم المساواة مع غيرهم من مختلف التيارات السورية، لكنها تتعلق بطبيعة القصور الذي أدّى إليه توظيفهم المرجعيات واستلهاماتها، وهي استلهامات كان قد تصاعد تأثيرها في ظل تعاظم بؤس السوريين وفئاتهم المهمشة، ولجوئهم العفوي إلى تلك المرجعيات، هرباً من عنف النظام وعصبويته التشبيحية، لكنها، أي الاستلهامات، إذا كانت قد لبت حاجات اللجوء والتضامن في مرحلةٍ ما، فلم تكن لتحل مشكلات الواقع والحرب المعقدة مع النظام، ولم تتمكّن من توحيد مواقف الجماعات المتجاورة في البيئة وتحت اللافتة نفسها، وهو توحيد تتطلبه أولويات المعركة أيضاً، لكنها كانت تغطي دوماً تلبية المصالح الذاتية، والارتباطات الضيقة لقادة الجماعات، فضلاً عن نزعات الممولين والداعمين. والأمثلة لا تعد ولا تحصى على صغر الخلافات والنزاعات التي تكاد تكون شخصيةً بين أولئك القادة، لكنها صارت بلا قيمة اليوم مقابل الخسارة العسكرية التي تسببت بها أمام قوات النظام.
بذلك، يكون ما حدث في غوطة دمشق اختباراً جديداً لمشاركة الإسلاميين في الثورة السورية، لكنه الاختبارالميداني الأخطر، نظراً لتداعياته الكبيرة، وتأثيراتها على مسار الصراع العسكري، في مرحلةٍ حرجة، يحاول فيها النظام، مع حلفائه، تغيير موازين القوى ميدانياً، بهدف فرض اتجاه آخر للحل السياسي، يعيد إنتاج النظام، ويهدّد كل آمال السوريين في التغيير.