24 يونيو 2019
مشاهد من نضالات المرأة الفلسطينية (1)
شهادة الحاجة فاطمة حامد
هذه الرواية مقتبسة من لقاء أجرته الباحثة عايدة الحجار مع الحاجة فاطمة حامد بتاريخ 10/9/2018، في قرية سلواد في رام الله، وذلك ضمن مشروع ذاكرة فلسطين في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ونص المقابلة محفوظ في أرشيف المركز.
"مثل اللي بفرش حرير فوق قندول". هذا أول ما أذكره من حرب عام 1948. كنت في الحادية عشرة من عمري، أسكن مع عائلتي في شارع المخلص، فوق منطقة النسناس في مدينة حيفا. بدأت الحرب من الأطراف، وبدأ تهجير الناس بـ"التركات" إلى منطقتنا، منطقة الآبار. في البداية، استقبلهم أهالي المنطقة بأبواب وقلوب مفتوحة، وقاسموهم بطيب خاطر ما يملكون. لكن عندما أُقيمت مخيمات للاجئين في منطقة الجلزون، وعندما صُرفت لهم المساعدات والخيم، بدأت علامات الحسد تظهر على وجوه البعض، تخيل! كانوا يحسدونهم على الخيمة وفتات المساعدات! وقتها جرت العبارة على لساني، "مثل اللي بفرش حرير فوق قندول"، والقندول لمن لا يعرفه نبتة شوكية برية. ثم لم يمضِ وقت طويل حتى صار الجميع لاجئين.
أنا فاطمة إسماعيل سليمان حامد. وُلدت في سلواد في عام 1937. تنقلت مع أسرتي بين القدس وحيفا وعمّان، لنستقر أخيرًا في حيفا، إلى أن وقعت النكبة عام 1948 فهُجّرنا إلى سلواد. بيتنا في سلواد، كغيره من بيوت القرى الفلسطينية، بسيط تتقدمه مساحة مشتركة للأغنام والمواشي التي كنا نعتاش منها. ثم مع مرور الأيام صار شبّان القرية يهاجرون للعمل في الكويت. كانت هجراتهم غير شرعية، يهرّبهم المهربون عن طريق الصحراء، حتى إن تسعة من شبّان القرية ماتوا في رحلة هجرتهم التي لم تكتمل، والذين كان منهم توفيق حامد، أحد أبناء عمومتي.
لم أرَ جنود الاحتلال قبل عام 1967، في تلك الفترة كان أخي عبد الإله منتسبًا إلى حركة فتح، يشارك في الدوريات التي تسيرها، والعمليات التي تنفذها. شارك في تنفيذ ثلاث عمليات، وفي المرة الرابعة كُشفت دوريته في منطقة أريحا. يومها حوصرت مجموعتهم في البساتين؛ طوقهم الجنود بالمدرعات والطائرات، ثم قُتلوا جميعًا.
كان عبد الإله دليلي الأول على طريق المقاومة. عرّفني إلى حركة فتح، فالتحقت بها وتدربت في صفوفها. كنّا نتدرب في عمّان، في قاعدة تدريب لنا في منطقة الشميساني، ثم نقلونا إلى منطقة برية في الشمال، بعد مدينة إربد، هناك تدربنا على السلاح. كان اسمي الحركي وقتها "نجاح"، ثم طلبت منهم أن ينادوني بـ "أم ناصر"، تيمنًا بالنصر، وأخيرًا صاروا ينادونني بـ "فاطمة ريما"، نسبة إلى أمي، وهو ما يناديني به البعض حتى اليوم.
حين استشهد عبد الإله، كنت في عمّان. في ذلك الحين كنت أتابع تجنيد عناصر جديدة وتسجيلهم في الحركة، كما كنت أتنقل بين الضفة الغربية وعمّان لنقل الأوامر بين القيادة وعناصر التنظيم. ثم حدث أن كُشفت مجموعتنا، فأُبلغت بضرورة البقاء في الأردن، لأن مسألة اعتقالي صارت أمرًا حتميًا. لكني رفضت؛ "والله لو باخد ثلاث مؤبدات ما بعيش في الأردن". هكذا حُسم الأمر، فعدت إلى الضفة الغربية.
وبالفعل، بعد ثلاثة أشهر من وصولي جاءت دورية واعتقلتني من منزلي. علمت أن من اعتُقل من أفراد المجموعة قد اعترفوا عليّ، وأبلغوا قوات الاحتلال أني أمتلك سلاحًا كانت قد نُفذت به إحدى العمليات. كان خالي أحد أفراد المجموعة، وقد قال لي يومها: "سلميهم السلاح اللي عندك، لأني أنا ومحمود وحسن وخالد اعترفنا انهم عندك". لكني، على الرغم من ذلك، رفضت الاعتراف، وقلت: "غريتوني وأنا ما إلي بالجرة ذان". ولعل عدم اعترافي هو الذي نجاني من أحكام مؤبدة كنت سأُحكم بها لا محالة. قلت لهم: "عندي سلاح، بس ليش عندي سلاح؟ ما بعرف". بذلك لم يثبت علي من التهم شيء سوى حيازتي للسلاح.
سألني المحقق:
هذه الرواية مقتبسة من لقاء أجرته الباحثة عايدة الحجار مع الحاجة فاطمة حامد بتاريخ 10/9/2018، في قرية سلواد في رام الله، وذلك ضمن مشروع ذاكرة فلسطين في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ونص المقابلة محفوظ في أرشيف المركز.
"مثل اللي بفرش حرير فوق قندول". هذا أول ما أذكره من حرب عام 1948. كنت في الحادية عشرة من عمري، أسكن مع عائلتي في شارع المخلص، فوق منطقة النسناس في مدينة حيفا. بدأت الحرب من الأطراف، وبدأ تهجير الناس بـ"التركات" إلى منطقتنا، منطقة الآبار. في البداية، استقبلهم أهالي المنطقة بأبواب وقلوب مفتوحة، وقاسموهم بطيب خاطر ما يملكون. لكن عندما أُقيمت مخيمات للاجئين في منطقة الجلزون، وعندما صُرفت لهم المساعدات والخيم، بدأت علامات الحسد تظهر على وجوه البعض، تخيل! كانوا يحسدونهم على الخيمة وفتات المساعدات! وقتها جرت العبارة على لساني، "مثل اللي بفرش حرير فوق قندول"، والقندول لمن لا يعرفه نبتة شوكية برية. ثم لم يمضِ وقت طويل حتى صار الجميع لاجئين.
أنا فاطمة إسماعيل سليمان حامد. وُلدت في سلواد في عام 1937. تنقلت مع أسرتي بين القدس وحيفا وعمّان، لنستقر أخيرًا في حيفا، إلى أن وقعت النكبة عام 1948 فهُجّرنا إلى سلواد. بيتنا في سلواد، كغيره من بيوت القرى الفلسطينية، بسيط تتقدمه مساحة مشتركة للأغنام والمواشي التي كنا نعتاش منها. ثم مع مرور الأيام صار شبّان القرية يهاجرون للعمل في الكويت. كانت هجراتهم غير شرعية، يهرّبهم المهربون عن طريق الصحراء، حتى إن تسعة من شبّان القرية ماتوا في رحلة هجرتهم التي لم تكتمل، والذين كان منهم توفيق حامد، أحد أبناء عمومتي.
لم أرَ جنود الاحتلال قبل عام 1967، في تلك الفترة كان أخي عبد الإله منتسبًا إلى حركة فتح، يشارك في الدوريات التي تسيرها، والعمليات التي تنفذها. شارك في تنفيذ ثلاث عمليات، وفي المرة الرابعة كُشفت دوريته في منطقة أريحا. يومها حوصرت مجموعتهم في البساتين؛ طوقهم الجنود بالمدرعات والطائرات، ثم قُتلوا جميعًا.
كان عبد الإله دليلي الأول على طريق المقاومة. عرّفني إلى حركة فتح، فالتحقت بها وتدربت في صفوفها. كنّا نتدرب في عمّان، في قاعدة تدريب لنا في منطقة الشميساني، ثم نقلونا إلى منطقة برية في الشمال، بعد مدينة إربد، هناك تدربنا على السلاح. كان اسمي الحركي وقتها "نجاح"، ثم طلبت منهم أن ينادوني بـ "أم ناصر"، تيمنًا بالنصر، وأخيرًا صاروا ينادونني بـ "فاطمة ريما"، نسبة إلى أمي، وهو ما يناديني به البعض حتى اليوم.
حين استشهد عبد الإله، كنت في عمّان. في ذلك الحين كنت أتابع تجنيد عناصر جديدة وتسجيلهم في الحركة، كما كنت أتنقل بين الضفة الغربية وعمّان لنقل الأوامر بين القيادة وعناصر التنظيم. ثم حدث أن كُشفت مجموعتنا، فأُبلغت بضرورة البقاء في الأردن، لأن مسألة اعتقالي صارت أمرًا حتميًا. لكني رفضت؛ "والله لو باخد ثلاث مؤبدات ما بعيش في الأردن". هكذا حُسم الأمر، فعدت إلى الضفة الغربية.
وبالفعل، بعد ثلاثة أشهر من وصولي جاءت دورية واعتقلتني من منزلي. علمت أن من اعتُقل من أفراد المجموعة قد اعترفوا عليّ، وأبلغوا قوات الاحتلال أني أمتلك سلاحًا كانت قد نُفذت به إحدى العمليات. كان خالي أحد أفراد المجموعة، وقد قال لي يومها: "سلميهم السلاح اللي عندك، لأني أنا ومحمود وحسن وخالد اعترفنا انهم عندك". لكني، على الرغم من ذلك، رفضت الاعتراف، وقلت: "غريتوني وأنا ما إلي بالجرة ذان". ولعل عدم اعترافي هو الذي نجاني من أحكام مؤبدة كنت سأُحكم بها لا محالة. قلت لهم: "عندي سلاح، بس ليش عندي سلاح؟ ما بعرف". بذلك لم يثبت علي من التهم شيء سوى حيازتي للسلاح.
سألني المحقق:
- لما شلتي السلاح ما خفتي؟
- لا.
- ليش؟ لأنك متعودة عليه؟
- لا، لأني بجهل خطورته.
لم أكن مدربة تمامًا على التعامل مع التحقيق والمحققين، ولكني كنت قد تعرفت مرة إلى سيدة من نابلس، اعتُقلت سابقًا، فزودتني ببعض المعلومات عن سير مثل هذه الأمور، فاستفدت من ذلك خلال أيام التحقيق الثلاثة التي مررت بها.
كان هذا اعتقالي الأول، في آب/ أغسطس من عام 1969، والذي استمر حتى نيسان/ إبريل 1970، أي أنه دام مدة أحد عشر شهرًا، وكما قلت، لم يثبت عليّ من التهم سوى حيازة السلاح فاكتفوا بهذه المدة من الاعتقال، لكنهم أيضًا نسفوا بيتي في سلواد. ثم أُعيد اعتقالي مرة أخرى إداريًا بتاريخ 14/3/1971. وفي المرة الثانية، اعتُقلت معي ثلاث نساء من قريتنا. في ذلك الوقت كان عمري 31 عامًا، وكانت إحداهن في الستين من عمرها، والأخريان فتاتين صغيرتين.
هذه المرة، صرخ بي المحقق:
- بإيش بدنا نهددك؟ جوزيك وطلقتيه، بيتك ونسفتيه، والسجن عرفتيه! بدنا نبعدك برا البلاد.
- الحمد لله إجت منكم مش مني، أنا كنت خايفة من السجن الأول ما تعطوني تصريح أطلع.
- شو، ضايل عليكِ تدريب برا؟ والله إلا نخليكِ في السجن.
في هذه اللحظة فرحت، قلت في نفسي "ما رح يبعدوني".
ثم أُدخلت في غرفة فيها فتاة/ شابة تبدو صغيرة، لكني لم أتبينها حينها. كانت تقف ووجهها إلى الحائط، ليبدأ بعد ذلك استجواب من نوع آخر. سأل المحقق الفتاة:
- مين كان يعطيكي الأوامر؟
- فاطمة.
- شو كنتِ تعملي؟
- كنا ننقل سلاح، وننقل أكل وفواكه للفدائيين، وكنا ننسج إلهم أواعي.
كان عليّ أن أستمع فحسب، ولم يكن مسموحًا لي بالحديث. في جولة التحقيق هذه كان المحقق يراقب ردّات فعلي على ما تقوله الفتاة، وأنا كنت أبتسم طوال الوقت. أعادوني بعدها إلى غرفة التحقيق، وبدأوا يستجوبونني من جديد، لكني ثبتُّ على أقوالي؛ "ما في اشي، وأنتو ضغطتوا عليها لتحكي هيك، علشان تروح وهي بنت صغيرة بالمدرسة". ربما كانت لا تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها.
يومها رجوت المحققين أن يفرجوا عن تلك الفتاة. كان اسمها زهرة، وكنت مصرة على تتبع أخبارها من داخل السجن للاطمئنان على أنها صارت في مأمن بعيدًا عن أيدي الجنود، فكان أن طلبت من الصليب الأحمر التأكد من الإفراج عنها، فأكدوا لي ذلك لاحقًا. وهكذا بقيت أنا والنسوة الثلاث اللواتي اعتقلن معي، وتعاهدنا بيننا على عدم الاعتراف. وهذا ما كان.
في سجن نابلس التقيت عددًا من المناضلات الأسيرات، أذكر منهن سعادة نابلسي، وسلام مقصر، وإنعام واحد، وصبحية أبو صلاح، ودوريس خوري. ودوريس هذه كانت معلمة مسيحية من رام الله، كانت نشيطة وخلوقة، حتى إنها كانت تصوم معنا أيام شهر رمضان كلها.
عند دخولي إلى سجن نابلس للمرة الثانية، حصل أن وقعت مشاجرة بيني وبين مديرة السجن، فسمعتها بعدها تقول للمدير الذي هو يهودي من أصل عراقي، ويتحدث العربية بطبيعة الحال:
- أنا ما بدي فاطمة هان.
- وين نروح فيها؟
- روحها على الدار ولا تضل عندي.
نُقلت بعدها إلى سجن الرملة. وُضعت في سيارة النقل، أنا والنسوة الثلاث، دون أن يخبرونا عن وجهتنا. سيارة النقل هذه تشبه الثلاجة؛ مغلقة تمامًا لا نافذة فيها ولا متنفس، ومعزولة عن حجرة القيادة. في رحلة النقل هذه سيطر عليّ هاجس الإبعاد، كنت مرعوبة من الفكرة. سألت المجندة المرافقة لنا عن وجهتنا، وكان الرد "ما بعرف". ثم حين تعبت المجندة واستُبدلت بأخرى، انتهزت الفرصة فسألت المجندة الجديدة: "إيش هاي البلد؟". فأجابت أنها نتانيا. عندها عرفت أننا في الطريق إلى سجن الرملة، وليس إلى جسر الملك حسين، ومن شدة فرحتي، جعلت من جدران الصندوق الذي يحتوينا طبلًا، وبدأت أغني: "افرش منديلك ع الرمل، وأنا ألف وأجيلك ع الرملة".
وصلنا إلى سجن الرملة، وهناك تعرفت إلى عائشة عودة ومريم الشخشير وعايدة سعد ورسمية عودة، وغيرهن. وهؤلاء أغلبهن جامعيات، على عكسي أنا التي لم أذهب إلى المدارس في صغري، فكانت أمور السجن منظمة. وكانت معنوياتهن عالية. فاستقبلننا بحفاوة، ورفعن من هممنا.
كان للحياة في سجن الرملة طابع مختلف؛ كنّا نتجمع بعد العصر في الليوان، فتأخذ إحداهن كتابًا تقرأ منه وتشرح لنا، ونحن في المقابل نتناول أفكاره ونناقشها. لم يكن لدينا أوقات للفراغ، كنا نقرأ، ننقاش، نكتب القصص والخواطر والمجلات، وبالطبع كل ذلك كان يجرى في الخفاء. وظلت هذه الحال حتى غادرتهم بعد ستة أشهر من اعتقالي.
في هذه الفترة، أي بعد خروجي من السجن، بدأت ظاهرة الاغتيالات، ولا أقصد هنا اغتيال قيادات الثورة، وإنما الشبّان العاملين فيها. كان الواحد منهم تبلغه إخبارية عن سلاح مخبأ في موقع ما، وبمجرد وصوله إليه ينفجر به الكمين. أذكر من هؤلاء عبد الحميد عبد حامد، وتيسير ومأمون. ومنهم أيضًا عبد القادر يوسف حمّاد الذي اغتيل بالسم في سورية، وقالوا بأنه مات بالسرطان الذي لم نسمع قبل موته عن إصابته به.
اليوم أتذكر تلك الأيام، وما تلاها في زمن الانتفاضتين الأولى والثانية. أتذكر عملية وادي الحرامية التي نفذها ثائر حماد، وعملية عين يبرود التي نفذها اثنان من بيت النجار وزوج ابنة أخي مؤيد حماد. كما أذكر من الانتفاضة الأولى يوم أُخبرت أن شابًا قد أُصيب بقدمه في منطقة وعرة، فخرجت إليه، لأجده ممددًا على الأرض. رأيت جرحه فطببته ثم أرسلت أطلب من ينقله إلى المستشفى. وحتى اليوم لا يزال هذا الشاب يرسل إلي سلامه مع كل عائد من الولايات المتحدة حيث يقيم.
اليوم أيضًا، أفكر في ما مضى وأعرف أنه لو عاد بي الزمان ما كنت لأغير شيئًا سوى أن أحقق أمنيتي بالتعلم. كان هذا هو الشيء الوحيد الذي فاتني. وحتى اليوم أكاد أفقد عقلي كلما شهدت اشتباكًا بين الشبّان وجنود الاحتلال؛ أخاف أن يسقط أحدهم شهيدًا أمامي. أنزل إلى الشارع، أقف حاجزًا بين الشبّان والجنود، بين الحجارة والرصاص. أحيانًا أصرخ في وجوه الجنود: "بتقولوا للشباب روحوا، وين يروحوا؟ هاي بلدهم، فش ولا حدا جاي من برا، انتو اللي جايين، انتوا روحوا، واللي بيفهم عربي منكم يفهم اللي بيفهمش".
- لا.
- ليش؟ لأنك متعودة عليه؟
- لا، لأني بجهل خطورته.
لم أكن مدربة تمامًا على التعامل مع التحقيق والمحققين، ولكني كنت قد تعرفت مرة إلى سيدة من نابلس، اعتُقلت سابقًا، فزودتني ببعض المعلومات عن سير مثل هذه الأمور، فاستفدت من ذلك خلال أيام التحقيق الثلاثة التي مررت بها.
كان هذا اعتقالي الأول، في آب/ أغسطس من عام 1969، والذي استمر حتى نيسان/ إبريل 1970، أي أنه دام مدة أحد عشر شهرًا، وكما قلت، لم يثبت عليّ من التهم سوى حيازة السلاح فاكتفوا بهذه المدة من الاعتقال، لكنهم أيضًا نسفوا بيتي في سلواد. ثم أُعيد اعتقالي مرة أخرى إداريًا بتاريخ 14/3/1971. وفي المرة الثانية، اعتُقلت معي ثلاث نساء من قريتنا. في ذلك الوقت كان عمري 31 عامًا، وكانت إحداهن في الستين من عمرها، والأخريان فتاتين صغيرتين.
هذه المرة، صرخ بي المحقق:
- بإيش بدنا نهددك؟ جوزيك وطلقتيه، بيتك ونسفتيه، والسجن عرفتيه! بدنا نبعدك برا البلاد.
- الحمد لله إجت منكم مش مني، أنا كنت خايفة من السجن الأول ما تعطوني تصريح أطلع.
- شو، ضايل عليكِ تدريب برا؟ والله إلا نخليكِ في السجن.
في هذه اللحظة فرحت، قلت في نفسي "ما رح يبعدوني".
ثم أُدخلت في غرفة فيها فتاة/ شابة تبدو صغيرة، لكني لم أتبينها حينها. كانت تقف ووجهها إلى الحائط، ليبدأ بعد ذلك استجواب من نوع آخر. سأل المحقق الفتاة:
- مين كان يعطيكي الأوامر؟
- فاطمة.
- شو كنتِ تعملي؟
- كنا ننقل سلاح، وننقل أكل وفواكه للفدائيين، وكنا ننسج إلهم أواعي.
كان عليّ أن أستمع فحسب، ولم يكن مسموحًا لي بالحديث. في جولة التحقيق هذه كان المحقق يراقب ردّات فعلي على ما تقوله الفتاة، وأنا كنت أبتسم طوال الوقت. أعادوني بعدها إلى غرفة التحقيق، وبدأوا يستجوبونني من جديد، لكني ثبتُّ على أقوالي؛ "ما في اشي، وأنتو ضغطتوا عليها لتحكي هيك، علشان تروح وهي بنت صغيرة بالمدرسة". ربما كانت لا تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها.
يومها رجوت المحققين أن يفرجوا عن تلك الفتاة. كان اسمها زهرة، وكنت مصرة على تتبع أخبارها من داخل السجن للاطمئنان على أنها صارت في مأمن بعيدًا عن أيدي الجنود، فكان أن طلبت من الصليب الأحمر التأكد من الإفراج عنها، فأكدوا لي ذلك لاحقًا. وهكذا بقيت أنا والنسوة الثلاث اللواتي اعتقلن معي، وتعاهدنا بيننا على عدم الاعتراف. وهذا ما كان.
في سجن نابلس التقيت عددًا من المناضلات الأسيرات، أذكر منهن سعادة نابلسي، وسلام مقصر، وإنعام واحد، وصبحية أبو صلاح، ودوريس خوري. ودوريس هذه كانت معلمة مسيحية من رام الله، كانت نشيطة وخلوقة، حتى إنها كانت تصوم معنا أيام شهر رمضان كلها.
عند دخولي إلى سجن نابلس للمرة الثانية، حصل أن وقعت مشاجرة بيني وبين مديرة السجن، فسمعتها بعدها تقول للمدير الذي هو يهودي من أصل عراقي، ويتحدث العربية بطبيعة الحال:
- أنا ما بدي فاطمة هان.
- وين نروح فيها؟
- روحها على الدار ولا تضل عندي.
نُقلت بعدها إلى سجن الرملة. وُضعت في سيارة النقل، أنا والنسوة الثلاث، دون أن يخبرونا عن وجهتنا. سيارة النقل هذه تشبه الثلاجة؛ مغلقة تمامًا لا نافذة فيها ولا متنفس، ومعزولة عن حجرة القيادة. في رحلة النقل هذه سيطر عليّ هاجس الإبعاد، كنت مرعوبة من الفكرة. سألت المجندة المرافقة لنا عن وجهتنا، وكان الرد "ما بعرف". ثم حين تعبت المجندة واستُبدلت بأخرى، انتهزت الفرصة فسألت المجندة الجديدة: "إيش هاي البلد؟". فأجابت أنها نتانيا. عندها عرفت أننا في الطريق إلى سجن الرملة، وليس إلى جسر الملك حسين، ومن شدة فرحتي، جعلت من جدران الصندوق الذي يحتوينا طبلًا، وبدأت أغني: "افرش منديلك ع الرمل، وأنا ألف وأجيلك ع الرملة".
وصلنا إلى سجن الرملة، وهناك تعرفت إلى عائشة عودة ومريم الشخشير وعايدة سعد ورسمية عودة، وغيرهن. وهؤلاء أغلبهن جامعيات، على عكسي أنا التي لم أذهب إلى المدارس في صغري، فكانت أمور السجن منظمة. وكانت معنوياتهن عالية. فاستقبلننا بحفاوة، ورفعن من هممنا.
كان للحياة في سجن الرملة طابع مختلف؛ كنّا نتجمع بعد العصر في الليوان، فتأخذ إحداهن كتابًا تقرأ منه وتشرح لنا، ونحن في المقابل نتناول أفكاره ونناقشها. لم يكن لدينا أوقات للفراغ، كنا نقرأ، ننقاش، نكتب القصص والخواطر والمجلات، وبالطبع كل ذلك كان يجرى في الخفاء. وظلت هذه الحال حتى غادرتهم بعد ستة أشهر من اعتقالي.
في هذه الفترة، أي بعد خروجي من السجن، بدأت ظاهرة الاغتيالات، ولا أقصد هنا اغتيال قيادات الثورة، وإنما الشبّان العاملين فيها. كان الواحد منهم تبلغه إخبارية عن سلاح مخبأ في موقع ما، وبمجرد وصوله إليه ينفجر به الكمين. أذكر من هؤلاء عبد الحميد عبد حامد، وتيسير ومأمون. ومنهم أيضًا عبد القادر يوسف حمّاد الذي اغتيل بالسم في سورية، وقالوا بأنه مات بالسرطان الذي لم نسمع قبل موته عن إصابته به.
اليوم أتذكر تلك الأيام، وما تلاها في زمن الانتفاضتين الأولى والثانية. أتذكر عملية وادي الحرامية التي نفذها ثائر حماد، وعملية عين يبرود التي نفذها اثنان من بيت النجار وزوج ابنة أخي مؤيد حماد. كما أذكر من الانتفاضة الأولى يوم أُخبرت أن شابًا قد أُصيب بقدمه في منطقة وعرة، فخرجت إليه، لأجده ممددًا على الأرض. رأيت جرحه فطببته ثم أرسلت أطلب من ينقله إلى المستشفى. وحتى اليوم لا يزال هذا الشاب يرسل إلي سلامه مع كل عائد من الولايات المتحدة حيث يقيم.
اليوم أيضًا، أفكر في ما مضى وأعرف أنه لو عاد بي الزمان ما كنت لأغير شيئًا سوى أن أحقق أمنيتي بالتعلم. كان هذا هو الشيء الوحيد الذي فاتني. وحتى اليوم أكاد أفقد عقلي كلما شهدت اشتباكًا بين الشبّان وجنود الاحتلال؛ أخاف أن يسقط أحدهم شهيدًا أمامي. أنزل إلى الشارع، أقف حاجزًا بين الشبّان والجنود، بين الحجارة والرصاص. أحيانًا أصرخ في وجوه الجنود: "بتقولوا للشباب روحوا، وين يروحوا؟ هاي بلدهم، فش ولا حدا جاي من برا، انتو اللي جايين، انتوا روحوا، واللي بيفهم عربي منكم يفهم اللي بيفهمش".