في مدح المذموم... عن العزلة وضرورتها

24 يونيو 2019
+ الخط -
إذا حقَّ لنا مخالفة أرسطو في مقولته المطلقة بأن الإنسان "حيوان مدني بطبعه"، فقد نعيد الصياغة فنقول إن الإنسان، إذا ما وعى ذاته، وحيد بطبعه، مدني للضرورة؛ وحيد إلى أن يستبد به الشعور بالألم والوحشة، فيهرب منها إلى الآخرين موقتًا، ليعود إليها مرارًا، في حلقة بحث لا تنتهي عن جوهر الذات.

يقول نيقولاي برديائف، في كتابه العزلة والمجتمع، إن الإنسان لا يدرك شخصه وتمايزه عن الآخرين "إلا عندما يكون وحيدًا، وإلا عندما يستبد به ذلك الشعور الحزين الكئيب بانعزاله". ذلك أن الإنسان يتحرر في عزلته من حالة الاستعباد التي ينزع إليها المجموع، فتنطلق روحه، ويصفو ذهنه، وتجلو أمامه حقيقة الخير والشر، وتزداد بصيرته حدة وتخلّقًا. فما يفعله المجتمع بحضاريته وصناعيته المتعجلة لا يعدو خلق نموذجٍ لـ"الإنسان المتوحش السعيد".

وإذا كنا منساقين هنا، مماشاة لسير الحديث، إلى توصيف حالة المعتزل المنكفئ على ذاته، المنسجم مع حالته، المتبصر بكل ما يحيطه، فربما يسعفنا سارتر، في روايته الغثيان، فنقتبس منها جملة من الاقتباسات، على لسان أنطوان، كاتب اليوميات الغارق في عزلته وصمته، فنجده يقول: "ولكني لا أحس نفسي بعد، إنني غارق في صفاءٍ ما يحيط بي"..


ويقول: "ولكن يندر أن تجد رجلًا وحيدًا يرغب في الضحك. صحيح أن مجموع المشهد قد انتعش في نظري بمعنى قوي، بل ووحشي، ولكنه نقي". وفي موضع آخر: "إنني سعيد؛ فهذا البرد شديد النقاء، وشديدة النقاء هذه الليلة، ألست أنا نفسي نفحة من هواء مثلوج! ليتني لا أملك دمًا ولا لحمًا، ليتني أسيل في هذا القنال الطويل نحو ذلك الشحوب هناك. ليتني لا أكون إلا بردًا". وأيضًا: "كانت جميع الأشياء التي تحيط بي مصنوعة من المادة التي أنا مصنوع منها، من نوع من الألم القبيح. كان العالم جد بشع خارج نفسي".

هذا الشعور السادر في الحزن والكآبة هو تجسيد للمعاناة التي تستعيرها الذات من داخلها، لا من مفاهيم غريبة عنها مفارقة لها. وهي التي تخلق لديها توقًا لالتقاء الآخر المطابق أو المكمل، وتقودها إلى البحث عنه والهرب إليه. فالعزلة المطلقة، كما يشير برديائف إنما هي انتحار أو جحيم، والذات إنما ترتبط بالعالم بعلاقة ثنائية بين الحاجة إلى العزلة والحاجة إلى أن تكون جزءًا من سير الحدث الخارجي، هي "تعاني حاجة عميقة إلى أن تنعكس انعكاسًا حقيقيًا في ذات أخرى، وأن تتأكد وتتحقق بواسطة ذات أخرى. وهي تتطلع إلى أن تُسمع وتُرى".

إذن فالأمر لا يستمر على منوال واحد في هذه المسألة، فالذات الواعية تشعر بالآخرين وتفترض وجودهم. كما أن العزلة، بحزنها ومعاناتها، لا تُهدينا صفاءً خالصًا مجردًا وأبديًا، وإنما تمنحنا معه "غثيانًا" يجرفنا إلى قعر لا قرار له. وهذا ما يقوله أيضًا بطلنا في الرواية: "كنت على السطح أجري حساباتي بصورة آلية. وفي الجوف، كانت تأسن جميع هذه الأفكار المزعجة التي اتخذت شكل استفهامات غير مصوغة، واندهاشات بكماء، والتي لا تتركني بعد ليلًا ولا نهارًا، أفكار عن آني، وعن حياتي الضائعة. وتحت ذلك أيضًا يقبع الغثيان خجولًا كالفجر".

يعرض برديائف في كتابه وسائل النفس في التغلب على عزلتها، فهي قد تلجأ إلى المعرفة أو الجنس أو الحب أو الصداقة أو الحياة الاجتماعية أو الفن. لكن الأمر لا يتحقق بالممارسة فحسب، إذ ينبغي للنفس أن تظل في خضم ذلك واعية بذاتها، وأن تتصل بذات الآخر اتصالًا روحيًا داخليًا وحقيقيًا، بل إن الاتحاد "غير الصادق" قد يؤدي إلى استثارة مشاعر العزلة وإيقاظها.

بطل الرواية مثلًا، اختار في بحثه عن مخرج لعزلته، أن يلتقي صاحبة المقهى الذي يتردد إليه، لا ليؤسس لعلاقة طويلة أو اتحاد صادق يمنح النفس سموًا يخلصها من وحدتها، وإنما هي علاقة سطحية عابرة. وهو مدرك لفعله هذا تمام الإدراك، فيصفها بقوله: "هي لا تقول قط لا.. وأنا لا أدفع لها؛ فنحن نقوم بفعل الحب مزدوجًا، وهي تصيب في ذلك متعة.. وهكذا أتطهر من بعض الكآبات التي أعرف جيدًا أسبابها. ولكننا لا نكاد نتبادل إلا بعض الكلمات. وما جدوى ذلك؟ إن كلًا لنفسه". هذا مثال نموذجي يوضح كيف أن الاتحاد غير الصادق إنما هو منبه لشعور العزلة وليس مخرجًا منه، إذ يقول بوضوح: "إن كلًا لنفسه".

خلاصة الأمر، نحن نقترب من ذواتنا في عزلتنا، ونغترب عنها كلما فارقتنا أو فارقناها لصالح الدور الذي يؤديه كل واحد منا في حياته، وفي المقابل نحن نخسرها أيضًا (أي الذات) في العزلة المطلقة.

لكن المفارقة اليوم تتجلى في أننا نحن الهاربين من وحدتنا بانشغالاتنا اليومية، لم نكسب جهلًا بذواتنا فحسب، وإنما مُنحنا معه شعورًا لا يغادرنا بالعزلة الداخلية، إذ لا يملك من فقد اتصاله مع ذاته أن يحقق اتصالًا حقيقيًا وصادقًا مع ذوات الآخرين. لذا لا بأس لو أن الواحد منا حدّث نفسه بين حين وآخر، كما كان يحدّث أنطوان نفسه في الرواية، فيقول مثلًا: "إنه يوم ممتاز ليقوم المرء بارتداد على نفسه".
دلالات
D88F6515-2641-4B76-9D90-9BDC22B8B5E4
منى عوض الله

محررة ومساعدة باحث لدى مشروع بحث وتوثيق الحركة الوطنية الفلسطينية.