مشاهد من اليوم الأخير في دمشق

15 أكتوبر 2015
مشاهد من اليوم الأخير في دمشق (مواقع التواصل)
+ الخط -
في المساء، غادرت البيت، متوجهًا إلى "سوق الخجا" في دمشق، وهو سوق مخصص لبيع جميع أنواع الحقائب، إذ اكتشفت أن كل الحقائب التي أقتنيتها في حياتي، كانت صغيرة، ومناسبة لسفريات قصيرة، أطولها كانت لا تتعدى الشهر، وآخر حقيبة اشتريتها، كانت في عام 2010م، كنت أصطحبها معي عندما أذهب في زيارة إلى مدينة السلمية، أو طرطوس، أو بيروت.


وقفت أمام المحلات في سوق الخجا، بعدما وقعت عيناي أخيرًا على حقيبة ضخمة، أعجبتني، لونها بني. نظر إليّ البائع، وقال لي : "مسافر؟ ".. أجبته: "لا ، أقرباء لي مسافرون، أوصوني بشراء حقيبة سفر لهم في طريقي".

لا أدري لماذا كذبت عليه؟ لماذا خانتني جرأتي، ولم أقل للبائع أني أنا من سيقتني هذه الحقيبة التي سترافقني بعد ذلك مثل لعنة؟ اشتريت الحقيبة وتوجهت إلى حيّ ساروجة الواقع خلف السوق، كان ينتظرني آخر صديق سأودّعه في أحد مقاهي ساروجة، وهو مقهى معروف باسم "لاروش".

جلست أنا وهذا الصديق "اليساري" الحكيم، والذي يكبرني بعشرين سنة، قال لي: هكذا إذًا قررت السفر، لا عليك، إنه قرار حكيم!، ماذا ستفعل في البلد؟ ما عاد بوسعك فعل شيء، سوى أن تكون عاطلًا عن العمل، وعبئًا على عائلتك؟ ولا يوجد بيت يتسع لكل أفراد العائلة، بعدما نزحتم من بيتكم جراء قصف الحيّ الذي كنتم تسكنون فيه!

هذا العجوز الصامد، الذي من المستحيل أن يغادر البلاد، مهما حصل، لماذا لم تكن خياراتي مثل خياراته؟ أنا لا أشبه تولستوي، إذًا من أشبه؟ بما أنني "سأرحل"، سأحاول أن أحافظ على هذه الملامح التي تتكون في هذا اليوم الملعون، ملامح انتمائي لهذه المدينة، التي لم أتعلم منها سوى الحب والقهر معًا، لا ثقافة ولا علم ولا مال -توازي طموحاتي وأمنياتي- كيف لا ؟ وقد كنا نُقبل على أي فِعل "نعتقد أنه من أبسط حقوقنا" مُكرهين، دخلنا المدرسة مكرهين، وقرأنا الصحف الصفراء مكرهين، وتقبّلنا الثقافة التي أطّرها لنا حاكم البلاد ونظامه الشمولي، وقدمها لنا كأنه يقدم لنا صدقة.

نعم فقط في هذه البلاد الملعونة تُمنح "المعرفة المخصية" كصدقة، حتى باتت عقولنا ممتلئة، ومحقونة، بعفن الفراغ. وما أن كشفنا ما راكمته معرفتنا "التي التهمنا فُتاتها بالسّر!"، وما إن صرخنا بما وثَّقتهُ العين المجرَّدة على مدى نصف قرن من العبودية، حتى استيقظت الوحوش القابعة في باطن من يحكموننا.

لوهلة لمحتُ لمعانًا يؤطر عيني صديقي، فأشحت بنظري، متجاهلًا أي مواجهة صارخة من هذا النوع، لكن الحقيقة أن هناك أحاسيس ومشاعر، بدأت تغزو كياني، وكأن بذور نوستالجيا المنفى "الخارجي"، بدأت تنمو.

بعد وداعٍ، بقي معلقًا بيني، وبين صديقي، ونهاية لقاءٍ حاولنا كلينا أن نشحنه بجرعاتٍ من التفاؤل، وعلى أمل ألا يطول الغياب عن هذه البلاد، مشيت من حيّ ساروجة، متوجهًا إلى شارع الحلبوني، والذي يبدأ من محطة الحجاز، وينتهي في شارع " الرئيس"، لأشتري آخر كتاب من هناك، وأودّع هذا الشارع الحميمي، الممتلئ بالمكتبات ودور النشر والمطابع. 
دخلت مكتبة "الفتّال" المشهورة بذلك الشارع، ووقفت أمام أعمال عبد الرحمن منيف، وأصبت في حيرة من أمري؛ هل أشتري رواية "قصة حب مجوسية" أم "شرق المتوسط"؟

وأنا أتأمل رواية شرق المتوسط، استعدت مشاهد التعذيب، التي سُردت على لسان البطل في الرواية، ومشاهد التعذيب التي رأى وسمع عنها العالم أجمع، لآلاف المعتقلين في سورية، جميع السوريين اليوم يعلمون أن هناك سورية ثانية تقبع تحت الأرض. للحظات شعرت بالرعب من إقدامي على شراء "شرق المتوسط"، وبحركة لا إرادية، امتدت يدي إلى رواية "قصة حب مجوسية"، وكانت آخر رواية قرأتها في دمشق. يبدو أن رواية شرق المتوسط رواية مفتوحة، وبإمكاني بكل بساطة أن أكمل كتابة الرواية، وأضيف آلاف الشخصيات، وآلاف القصص التي لن تنتهي.

(سورية)
المساهمون