لم تمحُ السنوات الـ34 الماضية، من ذاكرة الناجين من مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين، فظاعة ما جرى وقتها.
ورغم مرور الأيام لا يزال جرحهم طرياً، كما لو أن المجزرة وقعت اليوم. يجتمعون كل عام في 16 من سبتمبر/أيلول، في مقبرة الرحاب الجماعية لإحياء تلك الذكرى.
تاريخ بات لهؤلاء أقرب إلى الحج السنوي، يستذكرون ما حدث ويروون أيضاً ما حدث، في مشهد رغم تكراره سنوياً، يبدو كأنه يحدث للمرة الأولى، يتذكرون، ويبكون، ويطالبون بالعدالة.
في الساعة الخامسة من يوم ذكرى وقوع المجزرة، تبدأ المسيرة السنوية، من مخيم شاتيلا باتجاه المقبرة.
يقول أحمد عودة (فلسطيني)، أحد الناجين من المجزرة، لـ"العربي الجديد"، إنه في الساعة الخامسة من مساء يوم الخميس في 16 من سبتمبر/ أيلول عام 1982، دخلت مليشيا الكتائب اللبنانية إلى مخيم صبرا من جهة الرحاب، بعدما أمن لها الطريق جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي كان يطوق المخيم.
يتذكر عودة: "كان الأهالي في بيوتهم، وكان المخيم خالياً من السلاح. وكان حوالى 400 مسلح كتائبي (في إشارة إلى حزب الكتائب اللبناني) يعتدون على الأطفال والنساء والشيوخ. كانوا كأنهم قطيع من الذئاب المتعطشة للدماء. والحصيلة الأولى لباكورة ضحاياهم كانت 40 فرداً من عائلة المقداد (اللبنانية)".
يكمل "بدأنا نسمع أنهم وصلوا إلى مستشفى غزة، كنا نميزهم ببدلهم الخضراء، التي كتب عليها "كتائب لبنانية"، كانوا يبتدعون بالقتل، يحملون سكاكين وسواطير وأدوات حادة، وأيضاً مواد حارقة، وبعضهم كان يحمل سلاحاً نارياً".
يسكت برهة، ثم يحول عينيه إلى خارج المقبرة ويشير بإصبعه إلى ناحية مخيم شاتيلا، ويكمل "كنت أنا في (14 من عمري)، في البداية تجمعنا نحن الأشبال في الساحة هنا وحاولنا المقاومة وبدأنا نرشقهم بالحجارة، ولكن عندما رأيت كيف قتلوا أحد المقعدين عبر حرقه، بدأت بالجري في الأزقة إلى أن وصلت إلى المدينة الرياضية".
ويدحض عودة كل الروايات التاريخية التي تؤكد أن المجزرة نُفذّت فقط بالسلاح الأبيض، مؤكداً استخدام المليشيا البنادق.
وبعيداً عن الأدوات التي نُفذت بها المجزرة، فإن القتلة لم يحافظوا حتى على حرمة الجثث، إذ عمدوا إلى التنكيل بها، فقد وجدت بعض الجثث مقطعة وأخرى محروقة. واللافت أن وقوع المجزرة تم في هدوء تام بعيداً عن أعين العالم، إذ عمد الجيش الإسرائيلي، بقيادة أرييل شارون الذي كان يشرف مباشرة على العملية من موقع في السفارة الكويتية، بحسب مؤرخين، إلى استخدام القنابل المضيئة، للتمويه، مقدماً غطاء للمليشيا.
خارج المخيم كان السفاح ينظر إلى ضحاياه، وداخله كان الأطفال والنساء والشيوخ من جنسيات متعددة، في حفلة صيد بشرية.
أناس عزّل كانوا في منازلهم، وآخرون كانوا في الملاجئ، لم يدركوا أنهم في كمين إسرائيلي مليشياوي يهدف للقضاء عليهم. أطفال ناموا ولم يستفيقوا، ونساء اغتصبن وقتلن، وعجائز أحرقوا.
لا إحصاءات دقيقة إلى الآن عن عدد الضحايا، إلا أن التقديرات تشير إلى ما بين 750 و4000 قتيل من الفلسطينيين واللبنانيين. وبحسب الشهادات، فإن غالبية الضحايا هم من اللبنانيين.
تقول أم علي وهي لبنانية "كنت في المنزل مع طفلتي، بينما ابني وزوجي عند ابنتي التي تزوجت حديثاً، سمعت صوت صراخ وأنين وزاد صوت القنابل، اختبأت وابنتي تحت الفراش. وفي الساعة 9 مساء خف الصوت، غير أني لم أجرؤ على الخروج. في الصباح هدأ كل شيء خرجت، وكانت وجهتي منزل ابنتي، غير أنني لم أر إلا جثثاً مقطعة ومحروقة".
وتتابع: "بدأت أصلي حتى لا أرى عائلتي من بين الضحايا، توقفت وعدت إلى المنزل، خفت كثيراً".
تستطرد قائلة "بعد ساعات، استجمعت قواي وتوكلت على الله، ثم خرجت لأشاهد ما كنت أخافه، ولكن لم أتوقع فظاعة المشهد، ابنتي وجهها محروق، والجثث منكل بها".
تصرخ وتقول "جماعتنا سموا قائد القوات اللبنانية إيلي حبيقة أبو علي حبيقة، نحن فقط من ذقنا لوعة كربلاء، أنا خسرت علي ولكني سأبقى أم علي، هؤلاء كلن مجرمين".
تقاطعها ميلانة بطرس، التي كانت من الناجين أيضاً، وخسرت كذلك زوجها وأولادها الثلاثة "ليش عم تحكي عن جماعتك لي جماعتي رحمونا".
وتروي "سمعنا صوت القنابل، قررت وأولادي الذهاب إلى الملجأ، وعند خروجنا من المنزل لمحت 5 رجال يحملون السلاح الأبيض الذي يقطر دماء وعليه آثار لحم، كانوا يلبسون الزي الأخضر، وقتها ركعت وقلت باسم الصليب ارحمي، أنا لبنانية مسيحية من بيت بطرس، أخذوني وبناتي بشاحنات إلى المنطقة الشرقية، حيث سمعنا هناك أنهم ينادون بالمكبرات أن من له ثأراً على الفلسطينيين فليذهب معنا".
تضيف "وقتها قلت للشباب الذين رافقونا يا ابني ما المسيح فلسطيني ومين ما غلط بالحرب؟ فردّ لو المسيح الفلسطيني حاضراً اليوم لقتله".
تتابع "مساء في اليوم التالي، قاموا برميي أنا وبناتي عند منطقة الأوزاعي، مشيت إلى المخيم، لأجد ابني بلا رأس، وآخر مقطعاً وأبوهم فوقهم، وقتها أصبت بنوبة عصبية".
على بعد مئات الأمتار من مخيمي صبرا وشاتيلا، كان سكان مخيم برج البراجنة غافلين عما يحدث، تقول فاديا لوباني "ليلتها كنا نسمع فقط صوت القنابل المضيئة، لم نشعر أبداً أن هناك جريمة تحدث، كأن الليل أخذ أرواح الأبرياء بهدوء وسكينة".
48 ساعة مرت دون اكتشاف ما حدث، إذ منع جيش الاحتلال الصحافة من الدخول، غير أن رائحة تحلل الجثث كشفت الجريمة.
جريمة لم يبق منها إلا ذكريات أليمة تصاحب أهلها، وحفرة دفن فيها حوالى 1500 قتيل، من مجهولي الهوية، وممن تحللوا وأخفى التنكيل معالمهم.
يقول حارس المقبرة عدنان المقداد "عائلات بكاملها دفنت، وأناس يأتون ليتذكروا أحبتهم، تقريباً المدفن مأهول من 34 سنة بهؤلاء الذين لا يتركون عيداً أو مناسبة، إلا ويأتون إلى هنا، للبكاء على غالٍ لهم، وآخرون يأتون ليسألوا عن أحبة لهم، إن كانوا من ضمن المدفونين، غير أني لا أجد رداً".
واللافت أنه منذ المجزرة، التي أجمع العالم كله على أنها أفظع مجزرة بالتاريخ الحديث، لم يحظ الضحايا والناجون بأي تحقيق قضائي، ينصفهم، ويحاكم الجناة.
مذبحة السلاح الأبيض، كما عُرفت لاحقاً، كان عنوانها الثأر من الفلسطينيين، غير أنها وحّدت في وقت عصيب من تاريخ لبنان، الدم الفلسطيني واللبناني، في الألم وفي ذاكرة قد تمر عصور وتبقى تتحدث عما جرى.