مشاهدة مُمتعة لسينما مختلفة

30 اغسطس 2019
غابان وبورفيل: متعة الأسود والأبيض (فيسبوك)
+ الخط -
مُشاهدة فيلمٍ مهمّ، وإنْ بعد سنين على إنجازه وعرضه، ممتعة رغم قسوة محتواه وتفاصيله. أفلام عديدة تستدعي مُشاهداتٍ متكرّرة، إمّا لنصّها الحيوي، أو لاشتغالاتها الفنية والتقنية والدرامية المُثيرة للانتباه، أو لسجالياتها المُحرِّضة على النقاش والتفكير والتأمّل، أو لجماليات التمثيل وأساليب المعالجات. 

الأسباب كثيرة. لكن الأهم كامنٌ في المُشاهدة، وفي اختيار أفلام قديمة الإنتاج لمُشاهدتها في صالة سينمائية، تتيح مُشاهدة "صحّية"، إنْ يُمكن الاستعانة بمفردة كهذه. صالات أوروبية تعرض، بين حين وآخر، أفلامًا قديمة الإنتاج، وغالبًا بنسخٍ مُرمّمة حديثًا. التقنيات المتطوّرة تُتيح فرصةً كهذه: الترميم والمُشاهدة. لكن الترميم قادر أيضًا على منح "جديدٍ": إضافة لقطات غير موجودة في النسخة القديمة، وعدم وجودها حاصلٌ لأسبابٍ تقنية أو إنتاجية مثلاً، أو لرغبة توليفية ما، أو للتدخّل القاسي لشركات الإنتاج الكبرى، المتحكّمة سابقًا بكيفية إنجاز الفيلم، الذي يتمكّن مخرجه، إنْ يكن حيًّا يُرزق طبعًا، من إدخال محجوبٍ أو ممنوع أو مرفوض، بعد سنين من تحرير الاشتغال السينمائي من سطوة التدخّل ذاك. هناك أيضًا الاستعانة بتقنيات حديثة للغاية، تُمكّن المخرج من تحقيق لقطاتٍ يعجز، سابقًا، عن تحقيقها، بسبب غياب تلك التقنيات، أو أيضًا بسبب "شحّ" المال، ما يؤدّي إلى إلغائه تصوير لقطات يريدها.

صحيح أنّ غالبية أشرطة "دي. في. دي." و"بلوي راي"، وغيرها من التقنيات الأحدث والأجدد والأهمّ، قادرة على تقديم النسخ الكاملة للأفلام، لكن الترميم يُتيح مُشاهدة النسخ الكاملة تلك في صالة سينمائية، وهذا وحده ممتع ومُشوِّق وبديع. الأشرطة المعروضة في المنازل بتقنيات حديثة مفيدة ولذيذة، خصوصًا إنْ يمتلك "المشاهدون المنزليون" ما يمنحهم طقوس مُشاهدة خاصّة بصالة سينمائية. لكنْ، هناك شعورٌ غير قابل لتفسير أو توضيح، إزاء مُشاهدة نسخة مرمَّمة وكاملة لفيلمٍ مُشوِّق، مُنتج في وقتٍ سابق، في صالة سينمائية، مفتوحة أمام مُشاهدين "سينيفيليين"، بعضهم يبدو كأنّه راغب في مُشاهدة جديدة لفيلمٍ يعرفه منذ زمن بعيد، وبعضهم الآخر متعطّشٌ إلى مُشاهدة ما يعرفه عبر الأجهزة التقنية الحديثة. بالإضافة إلى من يرغب في مُشاهدة أولى لفيلمٍ قديم، وهذا حسنٌ ومطلوبٌ ومهمّ، بصرف النظر عن رأي ربما يكون سلبيًا إزاء الفيلم المُشَاهَد.

هذا حاصلٌ مؤخّرًا. "صالة فن وتجرية" في المدينة البلجيكية "مونس"، باسم "بلازا آرت"، تعرض 3 أفلام قديمة بنسخ مُرمّمة حديثًا: "سولاريس" (1972) للسوفييتي أندره تاركوفسكي (1932 ـ 1986)، و"دوني داركو" (2001) للأميركي ريتشارد كيلّي (1975)، وLa Traversee De Paris للفرنسي كلود أوتّان ـ لارا (1901 ـ 2000)، الذي يُنجزه عام 1956. الاختلاف كبير بين الأنماط والمسائل وآليات الاشتغال والهواجس. الأسود والأبيض في فيلم أوتّان ـ لارا بديع في استعادة زمن إنتاجي قديم (خمسينيات القرن الـ20)، وزمن أحداث درامية (الحرب العالمية الثانية، واحتلال نازيّ لباريس). الخيال العلمي ـ المُحمَّل بأسئلة وهواجس تخترق الجدران المرتفعة بين الفرد وذاته النفسية، بالإضافة إلى أسئلة العلم والمعرفة والوعي ـ يمتلك سحرًا غير موجود (إلى حدّ كبير) في غالبية أفلام الخيال العلمي الحديثة (سولاريس). الغرائبيّة، المعطوفة على وقائع تحوّلات أميركية في الاجتماع والعلاقات والمسالك والتفاصيل المختلفة للحياة اليومية (دوني داركو)، تتفوّق على كلّ وصف أو تحليل نقديين.



مُشاهدة نسخ حديثة لأفلام قديمة كهذه كافيةٌ لاستراحة سينمائية مع مسائل، فردية وجماعية، مليئة باضطرابات وارتباكات وتساؤلات. الاختبارات السينمائية للمخرجين كفيلةٌ بتبيان المدى العميق للـ"تورّط" الإخراجي في البحث الدائم عن جديدٍ ومختلف، ولتطويع التقنيات الموجودة لمصلحة المتخيّل، الذي يتجاوز كلّ حدّ وكلّ حاجز، وربما كلّ حافز أيضًا. التداخل بين الكوميديا والدراما، من دون ميلٍ كبيرٍ إلى أحدهما دون الآخر (فيلم أوتّان ـ لارا)، تجربة لمعاينة وقائع العيش في ظلّ احتلال نازي، وفي كيفية مقارعة الخراب بروح النكتة والسخرية. الذهاب بعيدًا في طرح أسئلة العيش، بجوانب مختلفة منه، جزءٌ من لعبة المواربة والحيلة السينمائيتين في مقاربة أحوالٍ قاسية، وارتباكات جمّة (فيلما تاركوفسكي وكيلّي).

كلامٌ كثيرٌ يُقال عن أفلامٍ كهذه، وعن تجربة "بلازا آرت" في عرض إنتاجات قديمة، إلى جانب الحديث أيضًا، وهو خارج السياق التجاري الاستهلاكي طبعًا. لكن المهمّ كامنٌ في أنّ الصالة تُتيح، في صيفٍ بلجيكي حارٍ بعد أيام "صيفية ماطرة"، فرصة التمتّع بروائع سينمائية كهذه.
المساهمون