مسنّات جزائريّات... "عمر الشقي بقي"

15 مارس 2016
لا أحد غيرها قادر على إعالة ابنتها (توفيق زيتوني)
+ الخط -

لطالما تغنّى الجزائريون حكومة وشعباً بارتفاع نسبة الشباب في المجتمع، والتي تقدّر بـ 75 في المائة، بصفتها مكسباً لا يقل أهمية عن الثروات الطبيعية، وخصوصاً في ظلّ شيخوخة تزحف إلى الدول الأوروبية. أمرٌ دفع هذه الدول إلى فتح باب الهجرة. ويبدو أن ارتفاع نسبة الشباب في الجزائر جعلت البلد ينسى فئة المسنين التي ساهمت في تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي، وبناء مؤسسات الاستقلال وغيرها.

ولم يعد غياب هذه الفئة يقتصر على الهيئات الحكومية وغيرها، بل يمتد إلى الأماكن الشعبية بعدما قلّ حضور العجائز في الأعراس والاحتفالات المختلفة، وانتشر بناء دور للشيخوخة في المدن، وهو السلوك الذي كان الجزائريون يتعاملون معه على أنه عار لا يُمحى خلال العقدين اللذين تليا الاستقلال الوطني عام 1962.

في السياق ذاته، يقول عبد الباسط ع.، وهو أحد المديرين المركزيين في مجال التضامن الوطني، إن دائرته تحصي نحو أربعة ملايين مسن في الجزائر من أصل أربعين مليون مواطن. ويلفت إلى أن الحكومة وضعت خططاً ومشاريع كثيرة تهدف إلى التكفل بهم مادياً ومعنوياً، على غرار القانون الصادر عام 2010، والذي يحدّد العلاقة بين الأبناء وأولياء الأمور. أما المسنون التائهون والذين ليس لديهم عائلات قادرة على إعالتهم، فقد خُصص لهم ما لا يقلّ عن أربعين مركز إيواء تتكفّل الحكومة بالنسبة الأكبر من ميزانيتها.

ويوضح عبدالباسط أن ارتفاع معدل الحياة في الجزائر من 48 عاماً عام 1962 إلى 78.8 عام 2008، جعل الحكومة تفكر مسبقاً في التكيّف مع ارتفاع نسبة الشيخوخة في المجتمع، بكل ما يترتب عن ذلك من بنيات اجتماعية واقتصادية جديدة. في هذا الإطار، يلفت إلى أهمية الإجراء الحكومي القاضي بمجانية النقل والدواء للمسنين المحرومين، ودفع منح مالية شهرية تحفظ كرامتهم.

من جهتها، تقول كلتوم بوصلاح (79 عاماً) إنها تتقاضى منحة شهرية تقدر بـ 300 دينار جزائري (نحو ثلاثين دولاراً)، وهو مبلغ لا يكفيها إلا لشراء الخبز والحليب. وتسأل: "ماذا كان سيحصل لي لو لم أرث بيتاً عن زوجي المتوفي قبل عشرين عاماً؟ هل كانت هذه المنحة ستغطي لي تكاليف الإيجار؟".
ليست بوصلاح وحدها التي تعاني. كثيرات يواجهن المشكلة عينها، والمتمثلة في عدم كفاية منحة الشيخوخة، علماً أنه ليس لدى بعضهن أي معيل، وقد تخلت عائلاتهن عنهن. فيما يضطر بعضهن إلى العمل، وخصوصاً إذا ما كن يتولين رعاية أحد.
إلى ذلك، تكاد هذه الظاهرة تندر في التجمعات القروية نظراً إلى روح التكافل بين أفرادها، إلا أنها تكثر في المدن.

على سبيل المثال، فإن رؤية عجوز تعمل لا يعد مستهجناً. وخلال جولة لـ "العربي الجديد"، كانت امرأة تنظف سلالم إحدى العمارات في شارع ديدوش مراد في العاصمة الجزائرية. واللافت أن سكان العمارة أو الزائرين الذين اعتادوا رؤيتها كانوا يتقبلون الأمر.
في السياق ذاته، تقول سعيدة التي تعمل في أحد محال بيع الملابس المستعملة المقابلة للعمارة: "أقدر هذه المرأة بدلاً من الاشفاق عليها، وخصوصاً أنها تكافح من أجل تأمين لقمة عيشها حتى الرمق الأخير". تضيف: "إن لم أحصل على عمل يوفر لي تقاعداً مريحاً، سأصبح مثلها يوماً ما".

من جهته، يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة "سطيف"، إدريس نوري، إن عمل المسنات الجزائريات ليس مرتبطاً بالحاجة بالضرورة. في بعض الأحيان، تكون روح الاجتهاد والمثابرة التي كبرن عليها هي دافعهن إلى ذلك. يضيف: "كانت المسنة تقوم بأعمال شاقة منذ القدم، ولم يُطرح الموضوع على أنه مساس بالقدسية أو بقيمة الأم في حد ذاتها. هل جمع وجلب الحطب أو جمع الزيتون في القرية أقل صعوبة من تنظيف عمارة؟".

أما الخالة مسعودة، التي تعمل في مجال تنظيف المباني منذ أربع سنوات في مدينة بودواو، فتقول إنها لم تكن لتشعر بالغبن لو جمعت الحطب أو جنت الزيتون لمساعدة أسرتها الفقيرة، فالقرويون جميعاً يعملون حتى آخر يوم من حياتهم. تقول: "ماتت أمي وهي تغزل الصوف، وكانت محاطة برعاية العائلة. أما أنا، فأعمل في مجال التنظيف حتى أعيل نفسي وأتجنب مد يدي للناس. صار عمري 71 عاماً".

حين كنّا نتحدث إليها، ظنت لوهلة أن هذه فرصتها للخروج من وضعها. وراحت تكشف عن رجليها اللتين تآكلتا بفعل مواد التنظيف، ويديها اللتين تشققتا. سألناها عن سبب عدم لجوئها إلى إحدى دور العجزة، فقالت إنها تعيل ابنتها المعوقة، ولا تستطيع أن تتركها وحدها. تضيف: "أنجبتها كي تعتني بي في شيخوختي، فإذا بالقدر يجعلني أهتم بها وأنا في عمري هذا. وكلما حلّ الشتاء أتضايق كثيراً بسبب صعوبة العمل". وعن المبلغ الذي تجمعه، في نهاية الشهر، تذكر بالمثل الشعبي الجزائري: "عمر الشقي بقي". تضيف: "أعمل في أربع عمارات، وأحصل من كل عمارة على خمسين دولاراً. في بعض الأحيان، يحدث أن يتأخر أحد السكان عن الدفع، أو يرفض ببساطة، فأحصل على مبلغ أقل من المعتاد أو المتفق عليه".

اقرأ أيضاً: برنامج إكوادوري طموح لكبار السنّ
المساهمون