عرضٌ مسرحي جديد في وهران، المدينة الواقعة غرب الجزائر على ضفاف المتوسّط. وعلى غير العادة، لم تكن وجهة فريق العرض مبنى المسرح الجهوي الذي يحمل، اليوم، اسم عبد القادر علّولة (1939 - 1994)، المسرحي الذي ترك بصمةً بارزةً على الفن الرابع في الجزائر كتابةً وإخراجاً وتمثيلاً، ثمّ قضى برصاصات الجماعات المسلّحة بينما كان متّجهاً لحضور اجتماعٍ نظّمته جمعيةٌ تُعنى بمساعدة الأطفال مرضى السرطان.
وجهةُ فريق مسرحية "الحرّاز" كانت مركزَ المدينة التاريخي؛ حيّ سيدي الهوّاري، الذي يأخذ اسمه من القطب الصوفي الجزائري، محمد بن عمر الهوّاري (1350 - 1439). أمّا قاعة العرض، فهي الشارع. "إنها محاولةٌ لإخراج المسرح إلى الشارع والالتقاء بالجمهور"، يُعلّق مراد سنوسي، مدير "مسرح وهران الجهوي"، الذي أَنتج العرض.
وبالفعل، نجح العمل، الذي سبق عرضه في الجزائر العاصمة في آذار/ مارس الماضي بإخراج الممثّلة المسرحية ليلى توشي، في استقطاب جمهور من المارّة الذين فوجئوا بعرضٍ مسرحيّ أمامهم، فتحلّقوا حوله لمتابعته. ويبدو أن الاستحسان الذي قوبلت به الفكرة فتح شهيّة سنوسي، فوعد بإقامة عشرة عروض للمسرحية في شوارع المدينة هذه الصائفة، لتُضاف إلى عروضٍ أُقيمت خلال جولةٍ نظّمتها جمعية محليّة أمام ألفَي متفرّج في بداية أيّار/ مايو الجاري.
يُمثّل عرض "الحرّاز" أحد التجارب القليلة في إطار مسرح الشارع الذي لا يزال محتشماً في الجزائر، رغم عراقة هذا الشكل المسرحي في البلاد، والذي تُشير بعض المصادر إلى أن ممارسته تعود إلى فترة الاستعمار الفرنسي؛ حين عمد بعض المسرحيّين إلى تقديم عروضهم في الشوارع، بعد منعهم من تقديمها داخل المسارح.
قبل ذلك، نعثُر في التراث الثقافي المحليّ على فنٍّ شعبي يُمكن اعتباره شكلاً من أشكال مسرح الشارع؛ وهو "القوّال" (يُعرف بالحكواتي في بلدان المشرق). تُحيلنا هذه المفردة إلى "القول"، أي إلى فنّ الحكي الذي كان سائداً في الأسواق الشعبية والأماكن العامّة، وهو تقليد شعبي وظّفه علّولة في مسرحه، ضمن اشتغاله الرائد على التراث الجزائري والمغاربي، وكان من ثماره ثلاثيته الأشهر: "الأقوال" (1980)، و"الأجواد" (1995)، و"اللثام" (1989).
يلتقي "القوّال"، أو "الحلقة"، مع مسرح الشارع في الاعتماد على الأداء المرتجَل وتوظيف اللغة المحكية، والتخفُّف من الديكور والمؤثّرات التي تستعين بها العروض المقدَّمة داخل المسارح، ويقترب كلاهما من انشغالات الناس، وهي عناصر تعمل على شدّ انتباه المتفرّج الذي يتفاعل مع العرض، وقد يُشارك فيه.
على العكس من ذلك، طغت النخبوية، متمثلةً في النزوع المبالغ فيه إلى التجريب، على المسرح الجزائري في السنوات الأخيرة. ويبدو أن ذلك لعب دوراً حاسماً في عزوف الجمهور عن قاعات العرض.
فرغم تزايد عدد التظاهرات المسرحية وما رافقها من كمٍّ كبير في الإنتاج خلال الفترة السابقة، ظلّ جمهور المسرح مقتصراً، في الغالب، على المسرحيّين أنفسهم، بدليل أن الكثير من الأعمال تُعرَض في قاعاتٍ شبه فارغة، إن قُدّمت خارج مواسم المهرجانات.
كحلٍّ لتلك المعضلة، يقترح بعض المسرحيّين والأكاديميّين كسر جدران "الغرفة الإيطالية" وإخراج العروض من القاعات المغلقة إلى الفضاءات الرحبة، مؤكّدين أن من شأن ذلك استقطاب الجمهور مجدّداً، وإعادة المسرح إلى موقعه الطبيعي؛ بوصفه فنّاً شعبياً يقترب من الناس ويتلمّس همومهم وقضاياهم، خصوصاً أن عروض الشارع لا تتطلّب إمكانيات ماليةً كبيرة، كتلك التي تُخصّص للمسرحيات التي تُنتَج لتُقدَّم داخل القاعة، ضمن شروط العرض المسرحي التقليدي.
غير أن تلك المقترحات لم تجد سبيلاً إلى التجسيد. فبينما تُقيم العديد من البلدان العربية والأجنبية تظاهراتٍ ومهرجانات خاصّةٍ بعروض الشارع، بعضُها يحظى بسمعةٍ عالمية، لم تلتفت وزارة الثقافة الجزائرية إلى مسرح الشارع، ولم تُفكّر في تنظيم تظاهراتٍ خاصّة به، خصوصاً في زمن البحبوحة المالية التي أُنتجت خلالها العشرات من الأعمال المسرحية، ثمّ ولّت مع انهيار أسعار النفط في الأسواق الدولية عام 2014، وكان من آثار ذلك تقليص تمويل الدولة للإنتاج المسرحي والمهرجانات المسرحية التي توقّف كثيرٌ منها.
ورغم أن تقديم العروض في الفضاءات العامّة قد يُسهم في استقطاب الجمهور العازف عن ارتياد المسارح، فإن قلّةً قليلة من المسرحيّين، فقط، انتهبت إلى أهميّته. وهكذا، لم تتعدّ التجارب في هذا المجال عدد أصابع اليد الواحدة.
في 2013، ذهبت الممثّلة المسرحية، عديلة بن ديمراد، رفقة فرقتها إلى "شاطئ الكيتاني" في حي باب الوادي الشعبي العريق؛ حيث قدّمت عرضاً بعنوان "حكواتي"، اجتمع حوله كثير من المهتمّين والفضوليّين. ثم لم تلبث المبادرة أن تحوّلت إلى تقليد يُشارك فيه ممثّلون شباب ويستقطب جمهوراً كبيراً من محبّي الفن الرابع، ومن العائلات التي وجدت متنفّساً في المدينة التي تآكلت فضاءاتها الثقافية.
بدأت الفكرة في 2011، في إطار تظاهرة "مدينة بلا سيارات"، التي تتمثّل في إخلاء شوارع مدينة الجزائر العاصمة من السيارات طيلة يوم كامل وتخصيصها للنشاطات الرياضية والثقافية والفنية؛ إذ اجتمع 12 طالباً من "المعهد العالي للفنون الدرامية والمسرحية"، وأعادوا تقديم مسرحية "العشيق عويشة والحرّاز" المستمدّة من التراث الشعبي، وسط الشارع.
حينها، اعتبرت بن ديمراد أن مسرح الشارع يفرضه عزوف الجمهور عن القاعات: "قرّرنا الذهاب بالمسرح إلى الجمهور، بما أن الأخير لا يأتي إليه. فما الفائدة من تقديم عرض أمام كراسي شاغرة؟".
وفي 2014، أطلق الاتحاد الأوروبي مشروعاً بعنوان "الدراما: التنوّع والتنمية" قال إنه يهدف إلى دعم الأصوات المسرحية الشابة، وتشجيع مسرح الشارع في الجزائر، وإبراز هذا النوع المسرحي؛ حيثُ أعلن عن منحةٍ مالية تصل قيمتها إلى خمسة وثمانين ألف يورو للعروض التي تُنجَزها فرق مسرحية ضمن "مسرح الحلقة والشارع"، مشترطاً أن تتناول قضايا بعينها؛ مثل الأقليّات العرقية والدينية واللغوية واللاجئين.
وفي 2015، حاول المسرحي الجزائري، سيد أحمد قارة، تأسيس مهرجان وطني لمسرح الشارع في مدينة مليانة بمحافظة عين الدفلى غربَي الجزائر العاصمة، بهدف "إعادة الجمهور إلى المسرح"، معتبراً أن عزوف الجمهور عن القاعات يُمثّل مسألة ينبغي على المسرحيّين العمل على تداركها. طالب قارة وزارة الثقافة بتمويل التظاهرة "بدل تمويل عروض مسرحية لا يشاهدها أحد". لكن إحجام الوزارة عن دعم المشروع حال دون تجسيده.