لا ينسحب المأزق السياسي والاجتماعي في الجزائر على مناحي الحياة السياسيّة والإقتصاديّة فحسب، لكنّه يشمل المساجد، في شقّه المتعلّق بمعالجة التطرّف الفكري والديني، في سياق ما تعتبره السلطة الجزائرية معالجة مسبّبات الأزمة الدامية، التي شهدتها البلاد منذ عام 1992، وأدّت بحسب أرقام غير رسميّة إلى مقتل 120 ألف شخص.
ويؤكد وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري محمد عيسى، عزم الحكومة مجدداً، على منع خطب التطرّف والخروج عن السياق العام في المساجد، محذراً الأئمة من عواقب ذلك.
وكانت الجزائر، منذ التسعينيات، وضعت المساجد تحت الرقابة، لتجنّب استغلالها كمنابر لخطب التطرّف والتحريض، وكمنشأ للمجموعات المسلحة التي حرفت رسالة المسجد عن الإصلاح والتوجيه إلى الهدم والتدمير، خصوصاً بعد كشف وجود مخابئ وأسلحة للمجموعات المسلحة في أقبية عدد من المساجد.
واسترجعت السلطات الجزائريّة منذ العقد الماضي سيطرتها على المساجد بشكل كامل، وقررت إغلاقها بعد الصلاة، ومنع أي إمام من الخطابة، ما لم تكن لديه رخصة من وزارة الشؤون الدينيّة والهيئات الرسميّة التابعة لها، كما منعت الحلقات والدروس في المساجد إلا برخصة من الإمام المكلف بإدارة وتسيير المسجد، وكذلك منعت جمع الأموال لصالح الجمعيات الخيريّة ولبناء المساجد إلا برخصة حكوميّة أيضاً.
ولم تمنع هذه الإجراءات بعض المجموعات الدينيّة من تحدّي السلطات، إذ تُقدم مجموعة يقودها الرجل الثاني في "الجبهة الاسلاميّة للإنقاذ" المحظورة، علي بلحاج، كل يوم جمعة بعد الصلاة، على إلقاء خطبة في المسجد، كما أنّها لم تردع بعض الأئمة المحسوبين على التيار السلفي، من التعبير عن مواقفهم الخارجة عن السياقات التي ترسمها السلطة.
ويدفع هذا الوضع الحكومة الجزائرية إلى اتخاذ إجراءات عقابية بحقّ هؤلاء. في شهر مارس/آذار الماضي، قرّرت الحكومة فصل عدد من أئمة المساجد بعد رفضهم إقامة صلاة الغائب على ضحايا الطائرة العسكريّة، التي سقطت في منطقة أم البواقي، شرقي الجزائر، وأدّت إلى مقتل مائة وشخصين.
وفي يوليو/تموز الماضي، قررت السلطات فصل 230 إماماً، بتهمة إلقاء خطب دينيّة متطرّفة وتحريضيّة والخروج عن النصّ والسياق الذي رسمته الحكومة، وقررت منعهم من العودة إلى الخطب والمنابر الدينيّة، ومن بينهم عدد من الأئمة رفضوا الوقوف للنشيد الرسمي وتحية العلم في المناسبات والاحتفالات والمؤتمرات الرسميّة.
وتحيي هذه المواقف مخاوف الجزائريين، من بروز توجّه جديد للتطرّف في أشكاله المتعدّدة، تزامناً مع الزخم السياسي والإعلامي المتّصل بظاهرة "داعش" كتنظيم وتفكير، فالجزائر التي خَبِرت التطرّف في مستوياته الفكريّة والماديّة، في مراحل تحوّله من عنف لفظي ثم مادي إلى عنف مسلّح، لا تريد السماح بتكرار هذه التجربة الأليمة.
وتستغلّ المجموعات المسلّحة الظروف الاجتماعيّة والفقر لتجنيد الشباب في صفوفها، ومن أقرب الأمثلة على ذلك نجاح تنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي، بتجنيد انتحاريين من الأحياء الفقيرة والمعدمة في ولايات الجزائر ووهران وبومرداس وباتنة عام 2007، وهي السنة التي شهدت أعنف التفجيرات الانتحاريّة في العاصمة الجزائرية، والتي طالت قصر الحكومة والمجلس الدستوري ومقر الأمم المتحدة ومراكز أمنية وثكنات عسكرية. وأثبتت التحقيقات الأمنيّة اللاحقة أنّ تجنيد الانتحاريين حصل في مسجد، يقع بمنطقة القبة في أعالي العاصمة الجزائر، القريبة من حيي الجبل وباش جراح، الأكثر فقراً في ضواحي العاصمة.
ويرى كثير من المراقبين أنّ الافتقاد لهيئة دينيّة مرجعيّة على غرار مفتٍ للجمهوريّة أو مجلس علمي مرجعي يفتح الباب واسعاً أمام موجة الفتاوى الآتية من الخارج، والتي لا تتوافق مع معطيات وظروف المجتمع الجزائري في كثير من الأحيان، يخلق حالة من الخلل والعلاقة غير الرشيدة بين المؤسّسة الدينيّة والسلطة، تجعل الأولى كما هي في الواقع، مجرد هيئة تابعة للثانية.
ولا يزال أئمة المساجد في الجزائر يتلقّون نصّ خطبة الجمعة أو موضوعها على الأقل، من وزارة الشؤون الدينية، التي تطالبهم في بعض الأوقات بتوحيد موضوع الخطبة وهو وجه لافت من أوجه سيطرة الحكومة على المساجد، بدلاً من منحها الاستقلاليّة التي تتيح لها المساهمة المجتمعيّة وتوظيفها سياسياً، لصالح دعم توجّهات السلطة، إلى حدّ دعوة بعض الأئمة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في أبريل/نيسان الماضي، إلى دعم الرئيس المرشّح عبد العزيز بوتفليقة، الأمر الذي شكل قمة الانغماس والتوظيف السياسي، وانحراف المؤسّسة الدينيّة، في وقت تزعم فيه السلطة، أنّها تسعى لإبعاد المساجد والمنابر الدينيّة عن العمل السياسي والتوظيف الحزبي المقيت.