مسؤولية المثقفين والراهن العربي

05 يوليو 2015

مشهد من الخراب السوري أمام أعين المثقف العربي

+ الخط -
يتعرّض العالم العربي لموجة غير مسبوقة من العنف والإرهاب والتدمير، تطاول مختلف البنيات الثقافية والاجتماعية التي قام عليها السلم الأهلي والتعايش بين مختلف الطوائف والمذاهب والفئات. ومن دون شك، ما يحدث حاليا ليس إلا نتاج مسارات مركبة، يشتبك فيها التاريخي والثقافي والاجتماعي والسياسي، والنتيجة، في النهاية، هي كما نرى، اندحارُ معظم مجتمعاتنا إلى هاوية بلا قرار، وعجزها عن الخروج من تخلفها البنيوي، وبناء مشروعها الوطني التعددي والديمقراطي.
هنا، يقفز إلى الواجهة سؤال في غاية الأهمية؛ ما هو دور ومسؤولية المثقفين العرب في ما يحدث حالياً من احتراب أهلي وطائفي وانتشار للإرهاب والعنف بمختلف أشكاله؟ يحيل هذا السؤال، بالضرورة، إلى الطرائق والصيغ التي بنى بها هؤلاء المثقفون علاقتهم بالواقع، وما يفرزه من إكراهات، تتجاوز أحلام الإيديولوجيا والسياسة في معظم الأحيان. وإذا كان بعضهم قد آثر الانزواء بعيداً عن هذا الواقع، مفضلا بريق التنظير وسحره، فإن فريقا آخر يتحمل المسؤولية الأخلاقية، على الأقل، فيما يجري، من خلال إسهامه في بناء وتسويق ثقافة العنف والإقصاء والتكفير ورفض الاختلاف.
نتحدث، هنا، عن حالة فكرية وسياسية، تشكلت في المنطقة خلال عقود طويلة. وقد عمل الفكر القومي واليسار العربي والإسلام السياسي على إشاعة هذه الحالة، ونشرها داخل النسيج الاجتماعي والثقافي، انطلاقا من وثوقية فكرية وإيديولوجية، لا تقبل الرأي الآخر، كيفما كان. وقد وجدت في واجهات العمل الحزبي والثقافي والإعلامي مجالاً لتجذرها وتغلغلها عميقاً في نظم المجتمع ومؤسساته. وساهمت مجموعة من الأحداث التي عرفتها المنطقة في "إغناء" المعجم الدلالي والسياسي لهذه الحالة التي تحولت، مع مرور الوقت، إلى ثقافة سياسية، تتشربها الأجيال المتعاقبة، عبر مختلف قنوات التنشئة الاجتماعية، فأصبح ترويج مقولات من قبيل "المستبد العادل" و"الأمة ذات الرسالة الخالدة" و"الكفاح الثوري" و"الجهاد" و"الحكم بالشريعة" معادلا موضوعيا لرفض الاختلاف وتخوين وإقصاء وتكفير من يقف على ضفاف فكرية وإيديولوجية مختلفة.

تغلغلت هذه الوثوقية في كل البلدان العربية، واجتاحت الأحزاب والنقابات والصحافة ومؤسسات العمل الأهلي والثقافي والجامعات ومراكز الأبحاث والأسرة والشارع. هكذا نمت بذور التطرف والتصلب الفكري في هدوء بين مختلف الأجيال والفئات، خصوصاً مع وجود نخب حاكمة، غير معنية بنشر قيم الاختلاف واحترام الرأي والتعايش، على اعتبار أنها قيم تهدد كينونتها ومستقبلها بلا شك. وبسبب ذلك، يجد مثقفون عرب أنفسهم، اليوم، غير قادرين على فهم واستيعاب تطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة والديمقراطية، معتبرين أن ما يحدث هو بمثابة مؤامرة إقليمية ودولية كبرى ضد نظام "وطني"، يعاقَب على مواقفه القومية المشرفة والمساندة لقوى المقاومة والممانعة في المنطقة. فالسياق الفكري الذي تغذّى عليه هؤلاء يجعلهم غير قادرين على استيعاب وفهم المتغيرات العميقة التي عرفها العالم في الثلاثين عاما الأخيرة. ولذلك، وقوفهم إلى جانب النظام السوري في حربه الشرسة والهمجية على شعبه، هو، من وجهة نظرهم، تعبير عن موقف وطني وقومي، لا يحتمل المساومة، هذا على الرغم من استبداد وطائفية هذا النظام، ومسؤوليته الأخلاقية والسياسية عن تدمير النسيج الوطني السوري وقتل وتشريد وتهجير عشرات الآلاف.
من هذا المنطلق، لا نبالغ إذا قلنا إن جزءاً من ثقافة العنف والتطرف، المتفشية حالياً في عالمنا العربي، يتحمل مسؤوليتها المثقفون، سواء كانوا في خندق اليسار أو القومية أو الإسلام السياسي. وبالطبع، أحدث ذلك شروخاً كبيرة في الثقافة العربية المعاصرة، فعوض أن تكون الأخيرة عاملا حيويا ومؤثرا في التدبير السلمي للاختلاف الفكري والسياسي والاجتماعي، تحولت إلى أحد روافد العنف الذي يجتاح كل شيء.
على ضوء ذلك، يمكن فهم عجز مثقفين كثيرين عن استيعاب الثورات العربية والآفاق التي سعت إلى فتحها في السياسة والاجتماع وأنماط الوعي والتفكير والسلوك. لم يستوعب هؤلاء خروج الملايين إلى الشوارع والميادين في مظاهرات سلمية، تطالب الأنظمة "الوطنية" بالخبز والكرامة والحرية، فقد كانوا ينظرون إلى هذه الملايين باعتبارها "جماهير"، يجب أن تنقاد بكل عفوية خلف "زعماء خالدين"، يخوضون معارك الوحدة والتحرير ومناهضة الرجعية والإمبريالية والصهيونية.
من هنا، لم يستطع هؤلاء المثقفون التفاعل بإيجابية وحيوية مع مختلف الأسئلة والقضايا التي أفرزها الحراك الشعبي، بسبب أحادية فكرهم ونظرتهم المتخشبة للواقع. ومن المؤسف أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى ما هو أسوأ وأفظع، من خلال انخراط مثقفين كثيرين في تأجيج الاحتراب الطائفي، خصوصا في العراق وسورية، ما زاد من انتشار مظاهر الإقصاء ورفض الآخر والتصلب النفسي والمذهبي بين فئات المجتمع الواحد وقطاعاته. ولعل ما يزيد من حدة المشكلة انتشار التحريض على العنف بين شرائح الطبقات الوسطى والفقيرة، التي تشير معظم الأبحاث السوسيولوجية إلى أنها تشكل تربة خصبة ومناسبة لتنامي الإرهاب.
كان إخفاق المثقفين العرب مريعاً في تشكيل بيئة ثقافية حاضنة لقيم الحداثة والعقلانية والتنوير، وقادرة على استئصال جذور التطرف والإرهاب، وفتح دروب أمام النسبية والوسطية والمراجعة والنقد الذاتي. ولذلك، لا يمكن تجاهل مسؤوليتهم المعنوية، في ما تكابده مجتمعات عربية تائهة، لم تستطع بعد أن تتجاوز سياقاتها الانتقالية المعقدة؛ مجتمعات حولتها الأنظمة المتسلطة والجماعات الجهادية التكفيرية والمليشيات الطائفية إلى حلبات مفتوحة بشكل مجاني على القتل والتدمير والخراب.