تعكس المعلومات المتضاربة الصادرة عن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بشأن عدد الجنود الأميركيين المنتشرين في سورية، وجهاً آخر من وجوه التخبّط الأميركي وغموض الاستراتيجية التي تتبنّاها إدارة الرئيس دونالد ترامب في سورية، إذا وُجدت أصلاً استراتيجية واضحة المعالم والأهداف لدى الإدارة الأميركية الجديدة غير تلك التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما.
وعلى الرغم من الانتقادات المتكررة التي وجّهها ترامب لاستراتيجية أوباما في سورية، خصوصاً تقاعسه عن التدخّل العسكري ضد نظام بشار الأسد بعد تجاوزه الخطوط الحمر الأميركية واستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد الشعب السوري عام 2013، إلا أن الأشهر العشرة الأولى من عمر إدارة ترامب لم تشهد أي تغيير جوهري في الدور العسكري الأميركي، باستثناء الرد الصاروخي الأميركي على استخدام قوات الأسد الأسلحة الكيميائية في خان شيخون.
وإذا كان المأخذ على استراتيجية أوباما أنها أخلَت الساحة السورية للروس والإيرانيين ولم تحرك ساكناً إزاء الجرائم والمجازر التي ارتُكبت بحق الشعب السوري، فإن سياسات إدارة ترامب أكدت الانكفاء الأميركي من خلال وقف برنامج تسليح فصائل "المعارضة السورية المعتدلة" وأعطت الأولوية لمحاربة "داعش"، ونحّت جانباً مسألة محاسبة نظام الأسد. ولعل الغياب الأميركي عن قمة سوتشي التي جمعت رؤساء روسيا وإيران وتركيا، كرست الانكفاء الأميركي عن المشهد السوري. كما أن القرار الأخير الذي أُعلن عنه بعد اتصال هاتفي بين الرئيس الأميركي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، بـ"تعديل الدعم للشركاء على الأرض في سورية"، والذي فسّر من قبل تركيا بأنه قرار بوقف تسليح المليشيات الكردية، يعزز فرضية الابتعاد الأميركي عن الساحة السورية.
وكان قرار إدارة أوباما نشر عدد من الجنود الأميركيين على الأرض السورية عام 2014، قد جاء في إطار جهود الحرب على الإرهاب بعد سيطرة تنظيم "داعش" على مساحات واسعة من العراق وسورية، وإعلانه "دولة الخلافة". واقتصر القرار على نشر 300 جندي أميركي في شمال سورية ضمن وحدات خاصة مهمتها تدريب ومساعدة الفصائل السورية المعارضة لنظام الأسد، خصوصا "قوات سورية الديمقراطية" التي تشكّل وحدات حماية الشعب الكردية عمودها الفقري. وزادت إدارة أوباما عدد تلك الوحدات نهاية العام الماضي إلى 500 جندي، على الرغم من تبنيها استراتيجية عدم نشر قوات أميركية على الأرض وما عُرف بعقيدة القيادة من الخلف.
وأثارت معلومات كشفها، الشهر الماضي، الجنرال في الجيش الأميركي جايمس جيرارد عن وجود 4 آلاف جندي أميركي في سورية، مزيداً من التساؤلات حول حجم الوجود العسكري الأميركي، وطرحت علامات استفهام حول طبيعة المهمات العسكرية لهذا العدد من القوات. لكن الجنرال الأميركي نفسه عاد للتراجع وقال للصحافيين في البنتاغون إن الأمر التبس عليه وإن العدد هو 500.
ويبرر المسؤولون الأميركيون هذا التضارب في المعلومات باحتمالات حدوث تغييرات في جداول العسكريين في اللحظات الأخيرة وعمليات تبديل الجنود، مشيرين إلى أن ذلك ليس تغييراً في عدد الجنود ولكن مجرد حصر دقيق مع تغيير الأعداد بشكل دائم.
ويطبّق الجيش الأميركي نظام الحصر المعروف باسم "فورس مانجمنت ليفل" في العراق وسورية، كوسيلة لممارسة رقابة على الجيش. وتشير أرقام نظام الحصر الرسمية إلى وجود 5262 عسكرياً في العراق و503 عسكريين في سورية، لكن مسؤولين قالوا في أحاديث خاصة في الماضي إن العدد الفعلي في كل بلد أكبر من المعلن.
وفي أغسطس/آب الماضي، أعلن البنتاغون أن هناك 11 ألف جندي يخدمون في أفغانستان، وهو عدد أعلى بآلاف عما أعلن من قبل. وقد عبر وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس عن إحباطه من طريقة الاحتساب التي يعتمد عليها برنامج مستوى إدارة القوات في تحديد عدد القوات الأميركية في مناطق الصراع.
وحسب منظمة بحثية تابعة للبنتاغون، فإن عدد الجنود الأميركيين في سورية ارتفع من 500 جندي في نهاية ولاية أوباما، إلى 1723 في الصيف الماضي. بينما بلغ عدد القوات الأميركية المنتشرة في العراق 9122 جندياً. وأشار تقرير البنتاغون إلى إرسال 3 آلاف جندي أميركي إلى مقر القيادة العسكرية الأميركية في قاعدة العديد في قطر بعد فرض الحصار الرباعي على الدوحة، كما وصل 3 آلاف جندي إلى الإمارات، وألفا جندي أميركي إضافي إلى البحرين، حيث تتمركز عدد من القطع البحرية الأميركية، فيما وصل ألفا جندي إلى قاعدة المبارك الجوية في الكويت، و840 إلى أنجيرليك في تركيا.
ويبقى السؤال عن مغزى توقيت كشف البنتاغون عن وجود قوات أميركية في سورية بأعداد أكبر من تلك التي أُعلن عنها سابقاً، بلا جواب واضح، خصوصاً أن المعركة مع "داعش" في سورية قد انتهت تقريباً. فهل يتعلق الأمر باستراتيجية ترامب الجديدة لمواجهة تمدد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، في ظل تزايد الحديث عن حرب إسرائيلية سعودية ضد "حزب الله" في لبنان وسورية قد تتطور إلى حرب مع إيران؟ أم أن الأمر يتعلق بحسابات أميركية داخلية بعد تعرّض وحدة أميركية خاصة لكمين نصبته مجموعة مسلحة تابعة لـ"داعش" في النيجر غرب أفريقيا وأسفر عن مقتل أربعة جنود أميركيين، إضافة إلى الانتقادات التي وجّهها الكونغرس ووسائل الإعلام الأميركية للبنتاغون بسبب عدم الشفافية وإخفاء وجود ستة آلاف عسكري أميركي في أفريقيا وطبيعة المهمات التي يقومون بها هناك.