مرمى الكرامة

07 ابريل 2015
لوحة للفنانة ريم الجندي
+ الخط -

-1-
ارتفع اسم اللاعب عالياً، بعد مخالفة قام بها أحد لاعبي الفريق الخصم، وأسفرت، وفق الإشارات التي قام بها حكم الساحة، عن ضربة حرة مباشرة. توجه إلى الكرة اللاعب "ع. طاطيش"،وكان في يومها من لاعبي فريق الجيش والمنتخب الوطني، قبض عليها بكلتا يديه، وقلّبها ضاغطاً عليها بأصابعه، وكأنه يتفحص ثقباً في غلافها، ثم ثبتها على العشب وعاين موقعها بتؤدة، قبل أن يتراجع بضع خطوات نحو الخلف، متهيئاً لركلها.

نظر إلى الأمام وإلى الأعلى كمن يحدق في شيء لا يُرى، تاركاً كفيه على خصره.. ثم هرول نحو الكرة وسددها بقوة باتجاه المرمى. اندفعت الكرة وتلوت لتستقر في زاويته البعيدة، المحمية بلاعبين متلاصقين كصف من الجنود المتوثبين، وبحارس يرتدي اللباس الأسود كشبح متربص، متحفز لنزع الحياة عن الكرات العابرة على تخوم مملكته وأسوارها.
ركض اللاعب نحو المضمار، حيث يقف مدرب الفريق ولاعبو الاحتياط، هدر صوت الجمهور من المدرجات الإسمنتية، وانتفضت قاماته من سكونها الخامل، وتعالى من القمرة الزجاجية صوت المعلق الرياضي "ع. بوظو"..."كول ولا أحلى من هيك...يا سلام عليك يا طاطيش"!!

لم تملك أجهزة الإعلام، في حينها، الأجهزة الحديثة التي تعيد المشاهد الرياضية، مثنى وثلاث ورباع...وتبطئ من سرعتها، ليتمكن المشاهدون من رؤية المشهد، وتعقب الكرة وهي تندفع كسهم، أو تتلوى كأفعى...أو تتوثب كذئب جائع...لتستقر في المرمى.
وكان الناس، وهم ذاتهم الجماهير في مدونة أخرى، يُحمّلون المرمى معنى الكرامة الآدمية، حيث يتوجب أن تغلق نوافذه وتسدل ستائره ويقف أمامه رجال شجعان، مستعدون للبذل والتضحية في سبيل الحفاظ على نقائه وسلامته وعذريته.

لم تعد الأرض تحتمل هذا اللاعب، وكأنه ارتبك بهدفه، وبضحكته المتحفزة بنداءات عالية من جمهور، فقد الأمل بتحقيق انتصارات كبيرة، كتحرير الأراضي المحتلة أو التوحيد القومي، واستبدلهم بالهياج الكروي والاكتشافات المتمهلة لجرعات مخنوقة من أفواه زجاجات المياه الغازية، التي يقرقع باعتها بمفاتيح سداداتها المعدنية على زجاجها النافر، وهم يتنقلون بين المدرجات العالية للملعب الأخضر.

-2-
وفي مباراة أخرى، وقعت المخالفة التي تستوجب من حكم الساحة الإقرار بضربة حرة مباشرة، وما إن حصل ذلك، حتى هدر الجمهور.. وأعقبه المعلق الرياضي "الجماهير تنادي طاطيش". تقدم اللاعب المفتون بهدفه المفرد، انحنى على الكرة، وحملها ليثبتها فوق المكان الذي أشار إليه حكم الساحة، تراجع بعدها، مبقياً وجهه نحو الكرة. تعالى صوت المذيع، قبل انطلاق اللاعب "يا الله يا طاطيش"...، هرول اللاعب نحو الكرة.. وقذفها، لتأتي بعيدة عن المرمى، عقب بعدها المذيع بعبارة سيعيد تكرارها لسنوات، وسيعتاد عليها الجمهور الرياضي: "معليش يا طاطيش".
لم يتوقف بعدها المعلق عن ابتكار الأسباب، التي حالت كلها دون تحقيق هدف آخر، مرة تحدث عن الهواء الذي عاكس الكرة، وساقها بعيدة عن المرمى، وأخرى عن وعكة صحية أصابت اللاعب قبل المباراة وبعدها عن مسافة السفر الطويلة التي عانى منها في طريقه إلى الملعب، ومرة عن التهاب لوزتيه، لكنه لم ينس البتة، تكرار عبارته "الجماهير تنادي طاطيش"، حين يعلن الحكم عن ضربة حرة مباشرة رغم أن الجماهير لم تكن تنادي، وهي جالسة على مصاطب مدرجات الملعب، تتمتم بعبارات أخرى، تنجيها من هزيمة أو تترفق بأقدارها.

استبدل الإعلام ومذيعه الرياضي العبارات المتهورة عن الانتصارات المأمولة، بحديث يستبق نتيجة المباراة والآثار المترتبة عليها، بكلام عن "الروح الرياضية"، تطوق الأفعال العفوية التي باتت توصف "بأعمال الشغب"، وهي في حقيقتها احتجاجات على نتائج المباراة، إما لكون النتائج لا تتناسب مع مسارها، وإما لكونها تلاعباً واضحاً بالنتيجة.
وتجاوزت هذه الأعمال حدود الاعتراضات والهتافات الناقمة لتتحول إلى أعمال ضرب وقتل ومطاردات وحشية في الشوارع، نتج عنها اعتقالات وتوقيفات. ويأتي صوت المذيع: " ليست النتيجة هي الهدف من المباراة، بل التنعم بالروح الرياضية" حتى حسب الناس أن لهذه الروح سمات وخصائص تتفرد بها عن الأرواح الأخرى، التي طالما شغلتهم "كالروح القدس" و"روح العصر" و "الأرواح" المتعددة بوصفها قوة نسائمية لا مرئية تخرج من فم الميت قبل موته آخذة أشكال الطيور أو الأنفاس الملتاعة، الخارجة من دياجير سنوات الآلام.

باتت تتداول بين أنصار الرياضات، مع مرور الأيام وتكرار الوقائع بحيثياتها، عبارة "مباعة" في إشارة لا تخص بطاقات الدخول إلى الملعب، الذي بات يعجز عن استيعاب الجمهور المتزايد، بل المباراة ونتيجتها، وربما تستطيل لتشمل الدوري العام للكرة برمته، كل شيء بات معروفاً وكأنه اقتلاع متعمد، لتلك البهجة التي تحصل للناس من فرط المفاجآت، وولوج لحالة اللامتوقع.
المباراة معروفة نتيجتها قبل صفرة حكم الساحة المؤذنة ببدايتها، والمسلسل التلفزيوني معروفة خاتمته من حلقته الأولى، كأنها رسالة في الجمادات، وإبلاغ عن انتقال المجتمع إلى جوف ثلاجة. اطردوا المفاجآت من تفكيركم، كل شيء خطط له بعناية، وحرست احتمالاته بشكل يفوق الخيال.

-3-
تنبهت الحكومات للرياضة، منذ انتشار الأيديولوجية الفاشية وأحزابها في أوروبا - الربع الأول من القرن العشرين-، وباتت تشغل موقعاً في برامجها السياسية التعبوية، وبادرت لتشجيع الشباب، أو الشبيبة كما باتت تصفها، على ممارستها، وعززته بالتحفيز لإنشاء الأندية، والمنشآت والملاعب والمسابقات.
اندفع بعد ذلك معظم قادة الدول لإعطاء رأي بها، وجُلّهم لم يعرف عنه، البتة، أنه قام بأية ممارسة، لأي نمط رياضي، قال واحدهم "أرى في الرياضة حياة"، ولم يتساءل أحد، كيف توصل إلى هذه النتيجة العميقة.

أمست الرياضة تعويضاً زهيد الثمن، عن الهزائم العسكرية، ولإخفاقات المشاريع الوحدوية، وعن العجز عن تحرير الأراضي المغتصبة، ومشاريع التنمية والرفاه الاجتماعي وغياب الحريات، وحقلاً لتفريغ الاحتقان الاجتماعي بسماته الأهلية، ومنبراً لاستنهاض العصبيات ودفعها لمواجهات يائسة في هذا الحيز المغلق.
ظهر العجز، في هذه الرياضة، بعدما تجاوزت حدودها الترفيهية، عن تحقيق أية نتائج أو بهجة، تعوض الفقدان والتعثر عن إنجاز اجتماعي. فعمل بمنهجية مثابرة، على نقل الصراع إلى عالم آخر، جرى نقله إلى عالم المجردات، كالانتصارات على مؤامرات لا تنتهي ومخططات استعمارية لا تشيخ، وضغائن أعداء متربصين منذ خمسة آلاف سنة بالبلاد.
المساهمون