مرة أخرى.. بين الليبرالية والنيوليبرالية

14 يوليو 2015
+ الخط -
ثمة رؤيتان لدور الدولة في سياق العولمة التي يقال، إنها إلى أفول تدريجي منذ عقدين. فالمدافعون عن التصور النيوليبرالي للنظام السياسي يعتبرون أن إصلاح السياسات العامة للدول، بإعطاء مزيد من مساحات التحرك لفعاليات القطاع الخاص، ولضبط الأسواق منذ سنوات 1980، أسهم في زيادة تفعيل العمل الاقتصادي العام وتمتينه، وفي تحسين رفاه المجتمعات.
أما الذين يزدرون العولمة النيوليبرالية، فإنهم يأسفون لتراجع السياسات العامة، ويدعون إلى العودة إلى الدولـة، ولكن، الدولة القوية بأجهزة عمل حيوية، شفّافة ومتناغمة على كل صعيد، وخصوصاً في السياسة والاقتصاد، ولاسيما لجهة وقف الهدر، والفساد، والتفكير في نظام ضريبي خلآّق، يتجاوز همّ الجباية الكلاسيكي، وتوحيد مرجعية حساب الدولة في وزارات المال، وتعزيز المساءلة الجدّية الصارمة، في ظل سيادة فعلية للقانون والقضاء.. وذلك كله من شأنه أن يضمن الصالح العام للدولة ومواطنيها.

هذان الموقفان يبدوان وكأنهما يجهلان التحولات التي أصابت طبيعة الدول ودورها في سياق العولمة، تبعاً لمنعطف الثمانينيات النيوليبرالي الكبير.
تتميز النيوليبرالية عن الليبرالية التي تدافع عن "دعه يعمل.. دعه يمر" بواقعة أنها تدعو إلى ضرب من التدخل العمومي، بهدف تحقيق برنامج السوق؛ بل إن على الدولـة نفسـها أن تعيد تنظيم نفسها على نمط تنافسي. ولئن كانت تفوض إلى القطاع الخاص، وإلى السوق، سـلطانها الاقتصادي، فإن الدولـة النيوليبرالية لا تتردد في اللجوء إلى شيء من التوجيه لفرض إصلاحاتها.
والواقع أن الدولة النيوليبرالية، غالباً ما تكون قوية سلطوية تدخلية، وليست "دولة حد أدنى"، وفق الفكرة التي كثيراً ما يروجها الليبراليون، وبعض الأوسـاط السياسية المناهضة للعولمة. فقد عمل أشـدّ دعاة النيوليبرالية حماسة وتوقداً، مارغريت تاتشر، جورج دبليو بوش، نيكولا ساركوزي، كل ما في وسـعهم من أجل تعزيز سـلطان الدولـة، في سعيهم إلى إضعاف وإخضاع كل سلطان مضاد، فقد جرى، مثلاً، تحييد النقابات، ووسائل الإعلام، والعدل أو الجامعة، حيث تشكل العلوم الاجتماعية مصدراً للتحليل النقدي للنظام، و"خنقها" جميعاً بدعاوى الإصلاح الخلّبية اللفظية بلا أي طائل.
ثم إن الطابع التوجيهي للتدخلات العمومية يتبدّى أكثر على المستوى الما فوق قومي. فخطط "التصويب" البنيوية التي فرضها صندوق النقد والبنك الدوليان، وأخيراً، البنك المركزي الأوروبي، تنشق جميعاً عن منطق متدن من الديمقراطية، وسلطوي بامتياز على نحو أخصّ.
غير أن سطوة الدولة النيوليبرالية لا تتوقف عند الاقتصاد؛ بل تذهب إلى أبعد منه. كما تؤثر كذلك على المجتمع، وعلى الأفراد، فالمسـألة هنا تدخلية أكثر دهاء ومراوغة للدولة، سمّاها ميشال فوكو "حاكمية". ويرى أنها تعمل، في بعض جوانبها غير المرئية، على إرساء "معرفة سلطوية جديدة"، تشمل زجّ الثقافي في السياسي، بالكامل التنفيذي، وجعله، أي الثقافي، من البطانة العاملة بقوة ترويج مضاعفة على أرض الاقتصاد الجديد، وبسياسات هذا الاقتصاد الملغّمة، والمنطلقة دوماً من رصد وتقويم واقعي للوقائع، وجعلها مذنّباً تابعاً لها بكل شروط التبعية الصاغرة.
والملاحظ أن سائر أشكال الضغوط لا تزال تمـارس لحمل الأفراد على التصرف، كمـا لو كانوا منخرطين في علاقات منافسة وصفقات في سـوق. وباتت المؤسسات كلها، بما فيها المسـتشفيات والجامعات، مكرهة على التصرف كمشـروعات، وعلى أن تكون ذات مردودية مربحة. أجراء القطاع العام مثلاً (موظفو الإدارات، المعلمون، الشرطة، الجنود الممرضات...إلخ) مأمورون باعتناق هذه العقلانية الليبرلبية الجديدة، ما يُفرِغ مهنهم من معناها، و"رسوليتها" وقيمة الانتساب المجتمعي إليها، ويسـهم، وهنا الخطورة، في عدد متزايد من عمليات الانتحار، وكذلك من أمراض الكآبات الغامضة غير المسبوقة.

هكذا، فإن الدولـة النيوليبرالية هي "مخاتل نهـّاب"، وفقاً لتعبير جيمس غالبريث، العالم الاقتصادي الأميركي المعروف. فلقد نُسِـجت، حسب رأيه، علاقات تواطؤ وثيقة بين الحاكمين، والنخب الاقتصادية والمـالية، والثقافية الجديدة هي مبعث فضائح مدوية كل يوم تقريباً.
ويبيّن غالبريث كيف تمدّدت في بلاده، وسائر بلاد الغرب الغنية، سياسة نهب حقيقية يُعرّفهـا بـ"الاستغلال الممنهج للمؤسسات العمومية من أجل المربح الخاص". وفي فرنسـا، اضطر وزيرا ميزانية في "حكومات ساركوزية"، على التوالي، إلى الاسـتقالة للاشتباه بتنازع مصالح، بالنظر إلى الصلات التي أقاموها وتعهّدوها مع أوساط اقتصادية اكتشفت، في ما بعد، أنها ذات مشبوهية احتكارية مخالفة للقوانين.
القرارات الرسمية الحكومية، ولاسيما التي تتعلق بالمجالات الضريبية والضبط والقوانين، تتأثر بالعمل الذي تمارسه الجماعات الضاغطة شـديدة القوة في واشنطن ولندن وبروكسـل من وراء سـتار. وقد جرى دفع هذا المنطق إلى أبعد الحدود الممكنة في القطاع المالي، المسؤول عن الأزمة المتوالية في الغربين، الأوروبي والأميركي، منذ عقد تقريباً، وجرى تعويم هذا القطاع المالي من دون مقابل، وهو يواصل اقتطاع جزء ضخم من الثروة العامة. ومـا افتقاد الإصلاحات المالية ذات الدلالة في أوروبا، ولدى العشرين الكبار، إلا شـاهد على وجود إرادة سياسية تأبى وضع سـلطان المالية المعولمة موضع تسـاؤل ومكاشفة صارمة ورادعة، حتى الآن.
ويخطئ من يظن أن مأساة اليونان المستفحلة، حالياً، والتي اقتربت من وضع ثلث السكان، في هذا البلد التاريخي، تحت خط الفقر المدقع الحقيقي، أن ذلك سيجعل مؤسسات العولمة المالية الكبرى، والمقررة، تتراجع عما رسمته لسياساتها الاستراتيجية العامة. كل ما ستفعله هو الالتفاف على الموضوع، وامتصاص كل نواتجه الكارثية على الأرض، مهما بلغت فداحتها المالية والاقتصادية، لإبقاء اليونان في النظام المالي الغربي إياه، لأن غير ذلك من شأنه أن يتسبب في انهيارات سياسية واقتصادية مشابهة كبرى، خصوصاً في إسبانيا وإيطاليا وسائر دول الجنوب الأوروبي، تستفيد منه روسيا الاتحادية التي يخوض ضدها الحلف الأطلسي، بقيادة الولايات المتحدة، حروباً باردة وساخنة بالوكالة، في عقر دارها (أوكرانيا) وفي محيطها الإقليمي والدولي في آسيا وعموم قارات العالم.
وبالعودة إلى الدولة النيوليبرالية، فإن الاستمرار في هذا التوجه، لا يدلّ على فهم مشوه لمفهوم ما بعد الدولة الليبرالية الحديثة وحسب، وإنما "سيؤدي بوحشيته، غير المنضبطة، إلى تقويض أسس الحضارة الغربية برمتها"، على حد تعبير جيمس غالبريث، الخبير الاقتصادي الأميركي والعالمي الكبير.

A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.