مدرسة الأطفال

05 نوفمبر 2015
لقد علمتني درساً كبيراً اليوم (Getty)
+ الخط -
وقف الطفل صاحب الخمسة أعوام على صخرة كبيرة يملأ كوب الماء الذي أعطته له والدته لتشرب، بالكاد استطاعت أصابعه الصغيرة أن تصل إلى الصنبور فيفتحه لينهمر الماء ويمتلئ الكوب، والطفل لم يتحرك من مكانه.. مرت لحظات حتى قام إليه والده الذي كان يجلس هو وأسرته تحت ظل شجرة كبيرة في وسط الحديقة على بعد أمتار من الصنبور وسأله بلهجة حازمة: هل أصبت بالعمى؟! ألا ترى أن الكوب قد امتلأ والماء يفيض على جانبيه؟
قال الطفل: لا يا أبي بل أراه جيداً.

قال الأب: إذاً لماذا لم تحضر الكوب وتغلق الصنبور.
قال الطفل: أحاول أن أجعل الكوب يأخذ كمية أكبر من الماء.

انتصب الأب كأنما تحول الى تمثال من الحجر وقد جحظت عيناه واحمر وجهه وكأنه فقد النطق.
قال الأب: بعد أن استجمع نفسه.. لا يمكن أن يكون هناك غباء بهذا الحد.. اذهب واجلس بعيداً عنّا، حتى لا تعدي إخوتك بهذا الغباء، ثم مضى وهو يتمتم بسيل من السباب واللعنات وكلمات يندب بها حظه.

جلس الطفل على طرف الصخرة يبكي وينتحب ودموعه تكاد تفوق الماء المنهمر من الصنبور الذي لا يزال مفتوحاً.

اقتربت من الطفل بعد أن أغلقت الصنبور ونظرت إليه بابتسامة قائلاً: لا ينبغي لولد صالح أن يترك الماء ينهمر هكذا، تلك نعمة من الله سنسأل عنها والأخيار مثلك عليهم أن يحافظوا عليها.
قال الطفل الذي بدا وكأنه كان ينتظر من يقطع وابل دموعه: أعرف أن الإسراف في المياه محرم، وما قصدت إلا أن أملأ الكوب.

قلت: ولكن الكوب قد امتلأ، فلماذا لم تغلق الصنبور.
قال: كنت أحاول أن أجعل الكوب يحمل كمية أكبر من الماء حتى أعطيه لأمي فتشرب حتى ترتوي.

قلت محاولاً أن أبسّط الأمر للطفل الذي بدا ضعيف الفهم كما وصفه أبوه: جزاك الله خيراً على برِّكَ بأمك، لكن الكوب هذا مكون من مادة صلبة لها قدرة محدودة لا تستطيع تجاوزها.

قال الطفل: أعلم هذا، لكني كنت أحاول أن أزيد من قدرته على حمل المزيد، ففعلت كما تقول لي أمي عندما اشتكى لها من عدم قدرتي على مواصلة المذاكرة وحفظ المزيد من الدروس وأن عقلي لا يحتمل أكثر من ذلك، فإنها تقول لي، بل أنت كسلان تريد اللعب فحسب عليك بتكرار المحاولة، ومهما كان الأمر كرر مرة تلو المرة ستحفظ، فالتكرار يعلم الـ...، وهذا ما فعلته مع الكوب جعلت الماء ينهمر عليه لعله يستجيب فيحمل قدراً أكبر من الماء.

كان كلام الولد كصخرة وقعت على رأسي من السماء فألجمتني حتى خفت أن يغشى علي. فجأة لم أعد أرى أمامي شيئاً حتى تلك الاشجار الضخمة التي كانت تحيط بنا من كل مكان كأنها اختفت، وخفت صراخ الصبية الذين يلعبون في الحديقة، كأن الكون كله قد توقف للحظة.

تركته لدقيقة طويلة ثم عدت إليه وبيدي كيس من الحلوى.
قال: الولد متسائلاً، هل كل هذه الحلوى لي.. ولماذا؟
قلت: نعم، إنها لك فقد علمتني درساً كبيراً اليوم.
قال الطفل منتشيا: هل صدقت أننا نستطيع أن نزيد من قدرة الكوب علي حمل الماء بالتكرار.

ارتسمت ابتسامه عريضة على وجهي ثم هززت رأسي بالنفي قائلا أنت ولد ذكي وإياك أن تعتقد يوما غير ذلك وانصرفت أراقبه من بعيد.

رغم طفولته وعفويته إلا أن فرحته بكلماتي كادت أن تفوق فرحته بالحلوى التي أخذ يوزعها على إخوته ثم جلس معهم على الأرض ليأكل وابتسامته البريئة لا تفارقه.

(مصر)
دلالات