15 سبتمبر 2019
مدخل إلى المناظرات
محمد الشبراوي (مصر)
يتطلب الولوج إلى عالم المناظرات الوقوف على التأصيل اللغوي والاصطلاحي للمناظرة؛ ومن دون إسهابٍ، فالمناظرة لغةً مفاعلة من نَظَرَ، والنظر حسّي ومعنوي؛ فمن الحسي: ناظِرُ العين وهو النقطة السوداء الصافية في وسط العين (البؤبؤ) وبها يرى الناظر، والنظرُ تقليب البصيرة بعد الفحص، ومنه نظر إلى الشيء، أي أبصره وتأمله بعينه، ونظر فيه أي تدبّر وفكّر، ونظر بين الناس، بمعنى حكم وفصل، ويقال داري تناظِرُ داره أي تقابلها، وناظر فلانًا صار نظيرًا له، وناظره باحثه وباراه في المحاجة.
على هذا الأساس، يحتاج المُنَاظِرُ إعمال نظره بدقةٍ فيما يعرض له أو يتناوله؛ فكلٌّ يطمعُ في أن ينتصر على صاحبه، لما في النفوس من حب الغلبة. وحتى تكون المناظرة مجديةً مع توفر عنصر الإمتاع؛ يفترض أن يكون المتناظرون على مستوياتٍ متقاربةٍ من الفهم والإدراك، ولا نقول المطابقة، لأنها نادرة الحدوث. ولذلك، قالت العرب "وافق شنٌ طبقة"، لأنه أمرٌ نادر التوافق، لكن المراد هو التقارب في المستوى العقلي والعملي، ما يجعل المناظرة عملًا فكريًا له قيمته. كذلك يفترض في المتناظرين أن يكونوا على مستوى علمي وثقافي جيد، بحيث يصبح، في مقدورهم، الصمود أمام الخصوم في ساحة المناظرة؛ ذلك أن المناظرة طرحٌ فكريٌ يتطلب المجهود الذهني الكبير، لتصحيح المفاهيم المغلوطة، وشق طريق جديد أمام الجمهور، إذا كانت المناظرة مفتوحةً أو أمام المحكمين في حال وجودهم.
سادت المناظرات في العصر العباسي، وحظيت باهتمامٍ بالغٍ على عادة العرب التي اقتضت بأنّ لكلِ جديدٍ لذة، وقد تطوّر فن المناظرات عن فنونٍ نثريةٍ أخرى، عُرفت، منذ العصر الجاهلي، كالمنافرات والمفاخرات والمباهلات. وقد كانت المناظرات في مجلس أبي العباس السفاح تأخذ شكل المفاخرات، أما مجالس من بعده من بني العباس، مثل أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والأمين والمأمون والهادي والمهدي، فقد غلبت عليها المحاورات؛ إذ كان يجتمع صفوة رجالات الفكر والعلم والأدب والفن في هذه المجالس، فيتحاورون ويتذاكرون في المجالات الفكرية والعلمية والأدبية والفنية.
ونظرًا إلى شيوع المناظرات في هذا العصر؛ فقد تعدّدت موضوعاتها، فمنها الفلسفية والنقدية والأدبية واللغوية، وقد استعمل المتناظرون طرائق عدّة في محاولةٍ للتغلّب على الخصوم، وفن المناظرات من أساليب التعلّم كذلك، ويمكننا أن نُجْمِلَ الطرائق التي استثمرها المتناظرون في العصر العباسي على النحو التالي:
أولاً، طريقة المحاجة (التبكيت)؛ مأخوذة من المحجة أي الطريق الواضحة وتقوم على مقارعة الحجة بالحجة، وذكر الأدلة والبراهين التي تؤيد وجهة نظر المتحدث. يكثر في المحاجة استعمال البراهين العقلية والدلائل والقياسات المنطقية، وقد شاعت هذه الطريقة في المناظرات الفقهية واللغوية.
ثانيًا، طريقة الإلزام؛ وتقوم على البراعة في الرد، إذ يعمدُ المتحدث الأول إلى توجيه أسئلةٍ تهدف إلى إلزام الخصم بسلوكِ دربٍ يصب في مصلحة السائل، وهذه الطريقة التي انتهجها الفلاسفة والمتكلمون؛ لأنها تؤدي إلى النتيجة المرجوة من أيسر السبل.
ثالثًا، طريقة التحسين والتقبيح، ويعمد مستخدمو هذه المنهجية إلى الموازنة بين شيئين، أحدهما حسن والآخر قبيح؛ فيذكرون الأمر الحسن وسلبياته، مع ذكر إيجابيات القبيح ومحاسنه، حتى يصلوا بذلك إلى تفضيل القبيح على الحسن. ولا تعتمد هذه الطريقة على المنطق الصحيح، بل تقوم على ساق المغالطة، وقد شاعت بين الأدباء، فظهرت رسائل في تفضيل الكذب على الصدق، وتفضيل النسيان على التذكّر، وتفضيل الغباء على الذكاء، ومن أشهر من كتبوا في ذلك خلال العصر العباسي سهلُ بن هارون، والذي كتب رسالته الشهيرة إلى بني عمومته، ينتصر فيها للبخل من الكرم، كما كتب في تفضيل الزجاج على الذهب.
ألهمت المناظرات بعض الكتّاب، فألفوا مناظراتٍ خيالية، كمناظرات الجاحظ "بين الكتاب والصديق"، والربيع والخريف، والديك والكلب، وغيرها الكثير.
على هذا الأساس، يحتاج المُنَاظِرُ إعمال نظره بدقةٍ فيما يعرض له أو يتناوله؛ فكلٌّ يطمعُ في أن ينتصر على صاحبه، لما في النفوس من حب الغلبة. وحتى تكون المناظرة مجديةً مع توفر عنصر الإمتاع؛ يفترض أن يكون المتناظرون على مستوياتٍ متقاربةٍ من الفهم والإدراك، ولا نقول المطابقة، لأنها نادرة الحدوث. ولذلك، قالت العرب "وافق شنٌ طبقة"، لأنه أمرٌ نادر التوافق، لكن المراد هو التقارب في المستوى العقلي والعملي، ما يجعل المناظرة عملًا فكريًا له قيمته. كذلك يفترض في المتناظرين أن يكونوا على مستوى علمي وثقافي جيد، بحيث يصبح، في مقدورهم، الصمود أمام الخصوم في ساحة المناظرة؛ ذلك أن المناظرة طرحٌ فكريٌ يتطلب المجهود الذهني الكبير، لتصحيح المفاهيم المغلوطة، وشق طريق جديد أمام الجمهور، إذا كانت المناظرة مفتوحةً أو أمام المحكمين في حال وجودهم.
سادت المناظرات في العصر العباسي، وحظيت باهتمامٍ بالغٍ على عادة العرب التي اقتضت بأنّ لكلِ جديدٍ لذة، وقد تطوّر فن المناظرات عن فنونٍ نثريةٍ أخرى، عُرفت، منذ العصر الجاهلي، كالمنافرات والمفاخرات والمباهلات. وقد كانت المناظرات في مجلس أبي العباس السفاح تأخذ شكل المفاخرات، أما مجالس من بعده من بني العباس، مثل أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والأمين والمأمون والهادي والمهدي، فقد غلبت عليها المحاورات؛ إذ كان يجتمع صفوة رجالات الفكر والعلم والأدب والفن في هذه المجالس، فيتحاورون ويتذاكرون في المجالات الفكرية والعلمية والأدبية والفنية.
ونظرًا إلى شيوع المناظرات في هذا العصر؛ فقد تعدّدت موضوعاتها، فمنها الفلسفية والنقدية والأدبية واللغوية، وقد استعمل المتناظرون طرائق عدّة في محاولةٍ للتغلّب على الخصوم، وفن المناظرات من أساليب التعلّم كذلك، ويمكننا أن نُجْمِلَ الطرائق التي استثمرها المتناظرون في العصر العباسي على النحو التالي:
أولاً، طريقة المحاجة (التبكيت)؛ مأخوذة من المحجة أي الطريق الواضحة وتقوم على مقارعة الحجة بالحجة، وذكر الأدلة والبراهين التي تؤيد وجهة نظر المتحدث. يكثر في المحاجة استعمال البراهين العقلية والدلائل والقياسات المنطقية، وقد شاعت هذه الطريقة في المناظرات الفقهية واللغوية.
ثانيًا، طريقة الإلزام؛ وتقوم على البراعة في الرد، إذ يعمدُ المتحدث الأول إلى توجيه أسئلةٍ تهدف إلى إلزام الخصم بسلوكِ دربٍ يصب في مصلحة السائل، وهذه الطريقة التي انتهجها الفلاسفة والمتكلمون؛ لأنها تؤدي إلى النتيجة المرجوة من أيسر السبل.
ثالثًا، طريقة التحسين والتقبيح، ويعمد مستخدمو هذه المنهجية إلى الموازنة بين شيئين، أحدهما حسن والآخر قبيح؛ فيذكرون الأمر الحسن وسلبياته، مع ذكر إيجابيات القبيح ومحاسنه، حتى يصلوا بذلك إلى تفضيل القبيح على الحسن. ولا تعتمد هذه الطريقة على المنطق الصحيح، بل تقوم على ساق المغالطة، وقد شاعت بين الأدباء، فظهرت رسائل في تفضيل الكذب على الصدق، وتفضيل النسيان على التذكّر، وتفضيل الغباء على الذكاء، ومن أشهر من كتبوا في ذلك خلال العصر العباسي سهلُ بن هارون، والذي كتب رسالته الشهيرة إلى بني عمومته، ينتصر فيها للبخل من الكرم، كما كتب في تفضيل الزجاج على الذهب.
ألهمت المناظرات بعض الكتّاب، فألفوا مناظراتٍ خيالية، كمناظرات الجاحظ "بين الكتاب والصديق"، والربيع والخريف، والديك والكلب، وغيرها الكثير.