الوجه الآخر للمنطق

14 يوليو 2019
+ الخط -
في المقهى الثقافي، وعلى هامش حلقة نقاشية، حمل بعض الحاضرين على المجتمع العربي، ورماه باضطهاد المناطقة والفلاسفة، جملة واحدة! والحق أن العرب اختلفوا في تعاطي الفلسفة والمنطق؛ فمنهم من شيطنها وحذر من دراستها، وبالغ في التنفير منها، حتى قال ابن الصلاح "من تمنطق فقد تزندق".
ويقتضي الإنصاف أن نضع الأمور في نصابها؛ وأن نذكر رد العلماء المسلمين على ابن الصلاح، وقولهم إنه لم يتصور الأمر على وجهه، وحكم وفق حوادث فردية، أو غلَّب عاطفته على عقله في حكمه.
تردد ابن الصلاح سرًا على الكمال بن يونس (كما في ترجمة الكمال، من طبقات الشافعية الكبرى) ليدرس عليه المنطق، ولم يُفتح له فيه بشيء؛ فقال ابن يونس: يا فقيه! دع عنك هذا العلم؛ فإن العامة إن علموا أنك تتردَّد لدراسته، ولم يُفتح لك فيه أساؤوا الظن فيك؛ فتركه ابن الصلاح.
هنا يطل سؤال وجيه: هل فتوى ابن الصلاح بزندقة من تناول المنطق، قبل أن يتردد على ابن يونس؟ أم بعد تردده عليه؟ وفي الحالين، لا تحق له الفتوى؛ لأن من حكم على شيءٍ قبل معرفته؛ فحكمه مردود عليه، ومن جهل شيئًا عاداه، وإن كان عالمًا، والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره.
ولا يختلف السيوطي في ذلك عن ابن الصلاح، وللسيوطي كتاب "القول المشرق في حرمة الاشتغال بالمنطق"، وقد ذكر في كتابه "التحدث بنعمة الله" أنه شرع في دراسة المنطق، وأن صدره أظلم؛ فانصرف عن المنطق وعوضه الله بعلم الحديث.
نفهم من ذلك أن الحافظ السيوطي لم يدرس المنطق، أو أنه استُغلق عليه واستعجم؛ فلم يزد عن تلخيص أقوال من انتقد المنطق، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان"، وهذا التلخيص في كتاب السيوطي "تجريد القريحة في تلخيص النصيحة"، ثم وضع كتاب "صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام"، ومن هنا لا يعوَّل على السيوطي في نقد المنطق.
ويختلف الأمر عند الإمام ابن تيمية؛ فقد درس المنطق واستخدم مسائله وبحوثه في أكثر تصانيفه، وبذلك يحكم ابن تيمية على المنطق من داخل حلبة المنطق، وليس من خارجها ولا من أسوارها، وألَّف كتابي "نقض المنطق"، و"الرد على المنطقيين"، وفند العلماء ما جاء في الكتابين، ومنها كتاب "تدعيم المنطق" لسعيد فودة.
المنطق (كما الفلسفة) أداة قد تكون المغالطة في استخدامها، وليس فيها هي، كما يحدث في استخدام الحبل والسكين والتلفزيون والإنترنت وغيرها من الأدوات والوسائل الأخرى. والمنطق على ثلاثة أقوال، كما ذكر الإمام تقي الدين السبكي، في متن السُّلم (فابن الصلاح والنواوي حرما/ وقال قومٌ ينبغي أن يُعلما)، وهذا القول يدفع عن علماء المسلمين تحريم المنطق وتجريمه، ولا سيَّما مع قول السبكي (والقولة المشهورة الصحيحة جوازه لسالم القريحة)، وتعليل ذلك أن البعض مؤهل لفهم الفلسفة والمنطق، وليس الأمر على الشاكلة عينها للجميع.
لو تركنا ميدان الفلسفة والمنطق للحظات، ودخلنا عالم الشعر لوقفنا على قرينة نفيد منها؛ فإن الأصمعي جلس بين يدي الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكان يرجو أن يتعلم عنه العروض؛ فلم يُفتح له فيه وصرفه الخليل بحيلة ذكية، قال له يومًا: كيف نُقطِّعُ البيت (إذا لم تستطع سيئًا فدعه/ وجاوزه إلى ما تستطيع)؟ ففهم الأصمعي مقصد الخليل وترك الشعر، وبرع في الغريب واللغة.
من هذا التطواف السريع، ندرك أن علماء المسلمين لم يحرموا الفلسفة والمنطق، بل اشترطوا أن يتصدى لها من يفهمها ويحسن تناولها.
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)