حين أردت أن أبني بيتاً، في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، طلبت من أحد المكاتب الهندسية أن يرسم المخطط الهندسي المطلوب لاستكمال الرخصة من البلدية، حسب القوانين المتبعة، فقدم لي المهندس المعماري رسماً موضوعاً ضمن الشكل المفترض لقطعة الأرض التي اخترت أن ابني البيت فوقها.
لم يكن المخطط لي كما اكتشفت في ما بعد، بل استعاره المهندس من أعمال جاهزة مخزنة في أدراج مكتبه. عرفت ذلك بعد أن دفعت "أتعابه" كاملة. إذ كان "المخطط" يفتقر لأي علاقة بالمكان، لا بقطعة الأرض وحدها، بل بالمحيط الأوسع. فقد قدم المهندس لي نمطاً معمارياً ينتمي إلى مخيلة مسروقة، ويقدم خدمات داخلية لا تشبه إلا قليلاً ما يمكن أن يتطلبه بيت ريفي. دون أن ننسى أن النمط الذي اختاره لم يكن يشبه أي نمط معماري محلي، أو لم يكن مستمداً من أنماط العمارة المحلية، سواء تلك التي اختار أبناء الريف بناءها، أو التي عمرت في المدن.
لا أعرف حتى اليوم المصدر المعماري الذي "ألهم" ذلك المهندس فكرة البيت، خاصة أنني علمت في ما بعد أنه يوزّع المخطط على زبائنه، مثلما يوزّع الكراميل. حبات متشابهة ومتكررة لا تتضمن أي إبداع، أو رغبة في التغيير، أو نزوعاً نحو التلاؤم مع المكان أو الحاجات المحلية، دع عنك العادات والتقاليد والطقوس التي يحتاج الناس فيها إلى أمكنة من طراز يساعدهم على عيشها أو تنفيذها براحة.
يمكن هنا الحديث عن التأثيرات المتبادلة بين الفنون، والواقع. فقد استطاع فن العمارة، في أوروبا مثلًا، أن يترجم التغييرات الاجتماعية الكبرى في القارة، من خلال الأشكال المعمارية التي حاولت أن تحل المشكلات الجديدة الناجمة عن التطور الرأسمالي المتسارع. يوضح كارل شورسكة ذلك في كتابه "فيينا أواخر القرن التاسع عشر".
تظهر أطراف القرية السورية بلا هوية، وقد اقتسمت "الحداثة" المزورة أراضيها. ففيما ظلّت القرية القديمة التي تقدّم في كل منطقة من المناطق السورية، اقتراحات لا نهائية لفن العمارة، على حالها بدون تطوّر أو تجديد. وفيما كان عليّ أن أبني كل مرة إضافة جديدة إلى بيتي في الريف بحسب الحاجات الضرورية لبيت ريفي، بدأت أكتشف أنه يتحول إلى مكان بلا هوية، بلا معلم واحد يمكن لأي شخص أن يدّعي أن هذا البيت يشبهنا، أو أننا نشبهه.
أخذت الأنماط المستوردة السهلة المتكررة الخالية من الضرورات الحياتية، تغزو المكان، وتقضم أنماط العمارة السورية المتنوعة، أو تنهش أطرافها، أو تلصق بها تجديدات ليس لها حاجات نفعية، أو رمزية.
ليست المدن بحال أفضل، وقد تحوّلت مدننا القديمة إلى معالم سياحية، تجبر سكانها على تحويل منازلهم من أمكنة للعيش، توصّل الإنسان إلى شكلها النموذجي المناسب لحياته، عبر مئات السنين، إلى مطاعم ومقاه تتباهى بـ "التراث" الذي تلخصه في النرجيلة والطربوش والسروال وأهازيج العرس.
يمكن لمن يزور دمشق أن يرى كيف تحولت المدينة القديمة إلى أسياخ كباب، وطرابيش، أو إلى أمكنة مناسبة لتصوير الأيام التي تُزوِّر تاريخ المكان، أو تلغي هويته.
اقرأ أيضاً: يا دار ميّة