محمود مرسي.. أن تكون نداً للشخصية الروائية

07 يونيو 2020
في دور سي السيد ضمن مسلسل "بين القصرين" (1987)
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، السابع من حزيران/ يونيو، ذكرى ميلاد الممثل المصري محمود مرسي (1923- 2004).


كان من المفترض - بحكم التكوين الدراسي - أن يكون مُخرجاً، غير أن محمود مرسي شقّ طريقه الفنّي كممثّل، وكان قبل ذلك قد درس الفلسفة واشتغل بالصحافة واختلط بدوائر الأدب والفنون المختلفة في مصر وأوروبا، وهي أنهار صبّت جميعها في مسيرته كممثّل فأخرج عبر الشخصيات التي أدّاها الكثير من تجربة حياته وتفرّع ميولاته واتساع ثقافته ونظرته إلى العالم.

ولعلّ هذه الخصائص قد أغرت الكثير من المخرجين بأن يدفعوا إليه عدداً من الشخصيات المركّبة لأدائها، ومنها شخصيّات أدبية هي من أعقد التكوينات التي جادت بها القريحة الروائية العربية، منها الشخصيات الإشكالية التي ابتدعها نجيب محفوظ، مثل السيد أحمد عبد الجواد في "ثلاثية القاهرة"، والتي أداها مرسي بدءاً من 1987 ضمن مسلسل من إخراج يوسف مرزوق، وشخصية عمر الحمزاوي في فيلم "الشحات" (1973) من إخراج حسام الدين مصطفى.

الانتقال من شخصية روائية، تتجسّد في كلمات وتعوّل على مخيّلة القارئ لبعث الروح فيها، إلى شخص من لحم ودم يؤدّيها أمام أعيننا ليس من البساطة بمكان مع مثل هذا النوع من الشخصيات، فالأمر كما يقول بذلك السيميولوجي الإيطالي أمبرتو إيكو أشبه بالترجمة، أي الانتقال من نظام علامات إلى آخر، وهو ما يقتضي عملية إعادة بناءٍ تكون محكومة في نفس الوقت بالملامح الأصلية وبإكراهات الحامل الفني الجديد، فإذا نظرنا في التركيبات المعقّدة التي أودعها محفوظ في مثل هاتين الشخصيّتين ربما نقف على الجهد الذي ينبغي على الممثل بذله ليكون نداً لمثل هذه التكوينات الإبداعية بأبعادها النفسية والثقافية والاجتماعية.

مثلاً، ليس سي السيّد شخصاً حقيقياً مفرداً عاش في بداية القرن العشرين، فقد ركّب نجيب محفوظ ضمنه ملامح جيل بأكمله، ببناء مكانته الاجتماعية ومنظومة قيمه وصورته القريبة من الربانية في أذهان أبنائه، ولم يعفه من حمل تناقضات جمّة تصنع مصيره، فمع تجسيده للقيم العليا التي يتنباها المجتمع المصري في زمنه، مثل الشهامة والوطنية والجود والتفاني في العمل والحرص الصادق على المقدّس الديني، تعايشت داخله نوازع البحث عن إشباع شهوات شتّى. ينجح سي السيّد إلى حين في تحقيق معادلته ببناء جدران سميكة بين العالمين اللذين يتعايشان داخله بنتناغم دقيق عجيب، غير أن مرور الزمن وتغيّر العقليات وامتلاك جيل الأبناء لرساميل مادية وثقافية واجتماعية جديدة كان قد بدأ في خلخلة الترتيبات التي أثّث حياته حولها، وتهيئة الظروف لخوض مأساته بمعايشة عالم سيتغّرب فيه بالتدريج مع انقلاب نفس العناصر التي صنعت سطوته إلى عوامل تكشف هشاشة النموذج الذي انبرى طول حياته في تشييده.

كيف يمكن تجسيد كل هذه التركيبة في شخصية نراها رؤيا العين؟ كان ذلك هو التحدّي الذي أقدم عليه محمود مرسي في مسلسل "بين القصرين"، ينضاف إلى ذلك تحدّي تجاوز الأداء السينمائي ليحيى شاهين منذ قرابة عقدين، وقد حقّق هو الآخر الكثير من النجاح. بفضل المساحة الزمنية الأوسع للمسلسل الدرامي، أخذ مرسي مسؤولية أثقل، وقد برع في تمرير تلك التناقضات التي أقيمت عليها شخصية سي السيد، فألّف في أدائه بين العوالم التي ينتقل بينها وحقّق لسي السيّد أبعاداً جديدة تنضاف إلى الشخصية الأدبية الأصل.

أما مع عمر الحمزواي، فقد اقترح نجيب محفوظ تجربة إشكالية غاية في الحدّة حيث يضع مثقف ما بعد "ثورة 52" أمام أزمة نفسية جاءت للمفارقة نتيجةَ خيبته بعد أن تحقق كل ما طمح إليه وأمضى حياته في الوصول له، من الثروة والمكانة الاجتماعية إلى تحقيق الدولة لتطلعاته السياسية حين كان شاباً ثورياً.

استفاد مرسي في هذا العمل من رؤية مخرج مثل حسام الدين مصطفى كان جريئاً على النصوص الأدبية إذا ما اقتبس منها أعماله. لكن اختيار مرسي لهذا الدور لم يخل من قراءة متأنية في المشهد الفنّي أعقبها انتقاء مدروس، فقد كان عليه أن يؤدّي شخصية قريبة من عمره الحقيقي، وبالتالي قريبة من الإشكالية التي يطرحها العمل (أقرب حتى من المؤلف نفسه)، ولا شكّ أن حياة محمود مرسي بتجاربها كانت تُسند أداءه لهذه الشخصية، إضافة إلى ذاكرته كممثل حيث سبق له بأشهر قليلة أن أدى دور المثقف الإشكالي في فيلم قصير بعنوان "مأساة الدكتور حسني".

لم تخلُ حياة مرسي كشخص واقعيّ هي الأخرى من التعقيد الذي اتسمت به الشخصيات التي يؤدّيها، فقد كان داخل المجتمع الفني وعلى مسافة معه، وكذلك الأمر مع الاتجاهات السياسية الرسمية ومنظومة العلاقات التي تفرضها، وعرف كيف يفرض خطه وشخصيته حتى من خلال أدوار غير رئيسية مثل "أبناء الصمت" (1974) و"طائر الليل الحزين" (1977)، ولنلاحظ هنا أنه لعب أدواراً من الصف الثاني وهو في قمة نجوميته مع ممثلين كانوا في بداية مشوارهم مثل محمود عبد العزيز وميرفت أمين ونيللي ونور الشريف وأحمد زكي، كما حضر في فيلم تونسي بعنوان "شمس الضباع" (1976) لـ رضا الباهي في وقت لم يكن فيه إنتاج منتظم في السينما التونسية.

بشكل عام يمكن تقسيم مسيرة محمود مرسي إلى فترتين أساسيّتين ساد في كلّ منهما فضاء فنّي بعينه فبين الستينيات والسبعينيات غلبت السينما على أي حضور آخر، وكانت أبرز نجاحاته في أفلام مثل: "السمان والخريف" (1967، أدى أيضاً شخصية من أدب نجيب محفوظ)، و"شيء من الخوف" (1969، أدى شخصية عتريس التي أصبحت من أشهر شخصيات الشر في السينما العربية)، و"ليل وقضبان" (1973)، و"أمواج بلا شاطئ" (1976).

بنهاية السبعينيات، التفت مرسي أكثر إلى الدراما التفزيونية، فظهر في أداء شخصية عباس محمود العقاد في مسلسل "العملاق" (1979)، وفي "زينب والعرش" (1980)، و"المحروسة 85" (1985)، و"رحلة السيد أبو العلاء البشري" (1986)، وقد عاد لأداء نفس الشخصية في "أبو العلاء 90" (1996)، وصولاً إلى أعماله الدرامية الأخيرة مثل "لما الثعلب فات" (1999)، و"بنات أفكاري" (2001).

دلالات
المساهمون