فقد ظلت باحة البيت النجفي والكربلائي في العراق، حتى عام 2003 إبان الاحتلال، مقتصرة على بضعة مراجع دينية؛ لكل واحد منها مدرسته ومقلّدوه. هكذا كان الحال منذ قرون طويلة، حافظت فيها المدارس الجعفرية على عروبتها بشكل متوازن مع طابعها الديني البحت. وأسهم ذلك باستقرار اجتماعي كبير في العراق طيلة الفترة المنصرمة، عرفت فيه البلاد سلماً أهلياً وتعايشاً اجتماعياً نسبيين.
غير أن الصخب الذي أحدثه الاحتلال في مارس/آذار 2003، دخل إلى جميع الغرف العراقية بلا استثناء، ومنها الغرفة الدينية، سنية كانت أم شيعية، وحتى المسيحية التي نجحت بالابتعاد عن الخط السياسي في عراق ما بعد الاحتلال، إذ حافظت الكنيسة على هيبتها أمام أتباعها ومختلف الطوائف العراقية.
ومما خلّفته فوضى الاحتلال والصخب الدامي في العراق، عملية وُصفت بتغريب المرجعيات الدينية في العراق وإبعاد العربية والعراقية منها على وجه الخصوص، إذ بدأت تظهر إلى العلن دعوات من داخل النجف وكربلاء إلى عرقنة المراجع الدينية، فيما ذهب آخرون إلى تعريبها بعد اتساع نفوذ المراجع ذات الأصول الدينية الإيرانية والباكستانية بالبلاد، كالمرجع علي السيستاني وبشير النجيفي وآية الله الشيرازي وآية الله قمي وآية الله الحائري، وهؤلاء أبرز مراجع العراق الدينية وهم من الجنسيات الإيرانية ولا يحملون جنسية عراقية، وعدد منهم لا يتقن العربية ويعمل لديهم فريق مترجمين.
أمام هذا الواقع، هاجمت السلطات العراقية المرجع العراقي والعربي الوحيد آية الله محمود الحسني الصرخي، واعتبرته مطلوباً للقضاء وطاردت الآلاف من أتباعه. وفي الفترة الأخيرة، منعت أنصاره من رفع صوره، وأحرقت خياماً نصبوها جنوب ووسط البلاد، كانت مخصصة لاستقبال نازحي محافظة الأنبار.
اقرأ أيضاً: الصرخي يحذّر من مليشيات ومافيات تهدف لتحطيم الإسلام
واعتبر رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الصرخي منزوع الصفة الدينية، وأمر باعتقاله، وأسفرت مداهمة قوات تابعة لمكتبه العام الماضي، عن مقتل العشرات من أنصاره واعتقال نحو 400 آخرين، ما زالوا من غير محاكمة في السجون، وذلك عقب رفضه هجوم المالكي على الأنبار وحرق خيام المعتصمين في الرمادي والحويجة، واصفاً الأخير بـ"الطائفي الشرير ومجرم الحرب". أعقب ذلك بفترة قصيرة رفضه فتوى المرجع السيستاني بإعلان الجهاد، واصفاً إياها بأنّها باب للفتنة، وطالب بحصر السلاح بيد الدولة العراقية.
اقرأ أيضاً مرجعية الصرخي: المالكي مجرم حرب وسنلاحقه إلى المريخ
ولا ينقص المرجع الصرخي الاهتمام أو عدد الأتباع، إلا أن سحب السلطات العراقية جميع مقومات وجوده على الساحة الدينية بالعراق كمرجع معتمد وأصيل من داخل النسيج العراقي، كإغلاق المدارس والمقرات الخاصة به، وحرق الكتب الدينية ومنع أي نشاط آخر له أو لأتباعه، كلها عوامل أدت الى التعتيم إعلامياً عليه، ما دفع أنصاره ومقلديه إلى اللجوء لمواقع التواصل الاجتماعي ورفدها بعشرات الصفحات التي تنشر فتاوى واستشارات العراقيين الشيعة عن لسانه، بحيث يجيب عن أي سؤال باستثناء سؤال واحد غالبا ما يتكرر حول مكان تواجده الآن.
والصرخي من مواليد عام 1964 في مدينة الكاظمية بالعاصمة العراقية. حاصل على البكالوريوس في الهندسة المدنية في ثمانينيات القرن الماضي. يعود نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، وبرز قبل احتلال البلاد معارضاً لسياسة رئيس النظام السابق صدام حسين، واعتقل مرات عدة في فترات متفاوتة. كما عُرف بعد الاحتلال برفضه للوجود الأميركي، وهاجم من بعده ما سماه "الشر الإيراني" بالبلاد وطالب بقطع "التغلغل الإيراني" ومنع تشويه وجه العراق العربي، من خلال خطب وفتاوى تزخر بها مواقع التواصل الاجتماعي.
ويحسب على الصرخي أنه المرجع العراقي الوحيد اليوم؛ إذ لا يوجد مرجع غيره يحمل الجنسية العراقية، وهو ما دفع بأتباعه الذين يقدرون بنحو ثلاثة ملايين عراقي إلى إطلاق لقب "فتاوى للوطن" على فتاويه، لا "فتاوى للجار"، في إشارة إلى المراجع الأخرى إيرانية الأصل.
ويبين الصرخي خلال تصريحات نشرها موقعه الإلكتروني أنه اعتقل ثلاث مرات من قبل نظام صدام حسين، بوشاية من رجال الدين آنذاك من البارزين اليوم. وقلّل من أهمية التصريحات التي تدور حول الإعداد لنقل المرجعية الدينية من محافظة النجف العراقية إلى مدينة قم الإيرانية، متسائلاً "هل توجد سلطة دينية في العراق خارجة عن قبضة إيران حتى نتحدث عن نقل السلطة من العراق إلى إيران؟".
وأصبحت آراء الصرخي مثيرة للجدل بعد ارتفاع حسه العروبي وانتقاداته اللاذعة لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، وبعض المرجعيات الدينية العراقية المرتبطة بإيران.
وشن في وقت سابق هجوماً غير مسبوق على ما سماه "تأليه المراجع الدينية" في العراق، مبيناً خلال تسجيل صوتي أن من يخالفهم يقطع إرباً ويحرق ويسحل ويُمثل به ويُهجّر، وتُرمى البراميل المتفجرة على بيته. وأضاف "جعلوهم آلهة من دون الله، عبدوهم من دون الله"، محذّراً من فتاوى وأحكام المراجع التي تستند إلى أتباع الهوى، الأمر الذي نتج منه خراب البلاد والعباد.
كذلك حذّر المرجع الديني العربي من التدخل الإيراني في العراق، مبيناً أنها جعلت من شيعة العراق العرب وقوداً لحرب تدافع فيها عن مصالحها، ومن أن النفوذ الايراني لن يتوقف عند حدود معينة. وأشار إلى "المخطط الإيراني للتسلط والتوسع الذي دفع بشيعة العراق إلى الترحم على صدام حسين"، معتبراً أن "الشارع العراقي يرفض ولاية الفقيه المطبقة في إيران"، وأن "نجح الإيرانيون في السيطرة على بعض المرجعيات الدينية الفارغة الطائفية الانتهازية الأعجمية"، على حدّ تعبيره.
وحول مرجعية السيد الصرخي، يقول عضو التيار العربي في محافظة النجف حسين عبد موحان لـ"العربي الجديد" إن سيطرة إيران على المرجعية بات واضحاً، ومن الطبيعي محاربة أي شخص يهاجم ذلك أو يحاول تعديله. وأضاف أن "قدسية رجال الدين والمراجع محفوظة وعالية، لكن أن تكون الفتاوى متطابقة 100 في المائة مع الموقف السياسي للنظام الإيراني، فهذا ما لا يمكن تمريره. كما أن إقصاء المراجع العراقية يؤكد وجود خلل كبير".
من جهته، يقول عضو التيار الصدري بالعراق محمد إسماعيل لـ"العربي الجديد" إن "الصرخي مرجع قتلته وطنيته وعروبته، وثار في وقت غير مناسب على الهيمنة الإيرانية، ومن الطبيعي أن يجتث ويهرب ويختفي، فإيران ستتصدى لأي ثائر بوجهها مهما كان موقعه ونسبه". وبيّن أنّه "يمكن للمتابع أن يرى فتاوى السيد مقتدى الصدر، فهي ذات طابع وطني أيضاً، وهذا يؤكد أن الوطن يجب أن يكون غرفة مغلقة لا يتولى أي من مفاصله غير ابن البلد".
وبحسب الحاج ناجي المحمود، أحد أتباع الصرخي في مدينة العمارة جنوب العراق، فإن الصرخي موجود داخل العراق ويتنقل بين دار وأخرى تابعة لتلامذته وأتباعه، لكن لن يظهر إلى العلن لحرص المالكي على الانتقام منه، وكذلك المليشيات التابعة لإيران.
ويضيف المحمود "شعبية الصرخي تزداد كل يوم خصوصاً في صفوف الشباب، وهم من مشارب مختلفة قوميين ووطنيين وإسلاميين ويحظى بقبول كبير عند السنة أيضاً. ويمكن أن يكون مشروعاً لوحدة عراق عربي قوي غير مجزأ، لكن الآلة الإيرانية قوية ولذا سيبقى هذا المشروع مجرد حلم أو فكرة على رف الانتظار في دكان كبير مليء بالمشاكل".
اقرأ أيضاً:عشيرة عراقية تتبرأ من أبنائها "الدواعش"