يحيلنا الحديث عن الإبستمولوجيا في في العالم العربي إلى أسماء قليلة، من بينها المفكر المغربي محمد وقيدي، الذي انخرط منذ أكثر من أربعة عقود - تدريساً وتأليفاً - في التعريف بالإبستمولوجيا وتطبيق مبادئها إضافة للعمل على انفتاحها على فضاءات معرفية أخرى.
"العربي الجديد" التقت بصاحب "ماهي الإبستمولوجيا؟" حيث يسترجع مساره مع هذا المجال المعرفي. يبدأ وقيدي حديثه بالقول: "لقد جئت إلى الإبستمولوجيا من بوابة الاختصاص الفلسفي الذي كنت أدرّسه والذي التقيت فيه بالكثير من الكتب في الإبستمولوجيا في البداية دون
أن أكون قد اخترت هذا الاختصاص، فقد كانت هناك أجزاء من المقرّرات الفلسفية التي ندرّسها تختصّ بالمناهج. والتقى ذلك باهتمامي الكبير والفعلي بالمناهج".
يضيف: "اعتمدت منذ ذلك الوقت على واحد من الكتب التي ألهمتني كثيراً في ما يتعلق بخصوصية المنهج وهو كتاب "مدخل إلى الطب التجريبي" للطبيب الفرنسي كلود برنار. شدّني في هذا الكتاب تركيزه على خصوصية المناهج، لأنه أثناء دراسة موضوع معيّن علينا أن نختار له منهجاً ملائماً، وكان برنار يرى في مؤلفه هذا، عدم إمكانية تطبيق المنهج التجريبي في البيولوجيا وفي الدراسات الطبية، بنفس كيفية تطبيقه في العلوم التجريبية الأخرى. ويمكنني القول إن هذا الكتاب كان بمثابة منطلق لي إلى الإبستمولوجيا".
وفي سياق بداية توجّهه نحو الإبستمولوجيا، يضيف وقيدي "إلى جانب كتاب برنار، كان هنالك كتاب آخر اطّلعت عليه، وهو كتاب "الفكر العلمي الجديد" لـ غاستون باشلار، وكان هذا قبل أن يقع اختياري على باشلار كموضوع لبحثي الجامعي الذي أنجزته لاحقاً". يتابع "لقد شدّني في هذا الكتاب جزؤه الذي يتحدّث عن الحتمية واللاحتمية، فاكتشفت باشلار ووجهة نظره في الفكر العلمي الجديد وكيف تطرح فيه مسألة الحتمية. وقد أفادني ذلك كثيراً في مسار التعرّف إلى الإبستمولوجيا وتبنّي أفكارها".
علاقة وقيدي بباشلار لم تتوقّف عند هذا الاكتشاف المبكّر لأفكاره فقط، بل ستستمر علاقته به سنوات أخرى تالية، إلى الحد الذي جعل طلابه في المغرب يلقّبونه بـ "باشلار المغرب". يشرح محاورنا علاقته بأفكار باشلار قائلاً: "ينبغي أن أشير إلى أن اختياري للإبستمولوجيا قد عبّر عن نفسه بشكل واضح منذ أن اخترت باشلار موضوعاً لبحث الدراسات العليا. فقد كان باشلار واحداً من الإبستمولوجيين الذين يمكن دراستهم، ولهذا اخترته. إذن فهو اختيار داخل اختيار".
تطبيق مبادئ الإبستمولوجيا بدأ مبكراً في مسار محمد وقيدي حيث شهدت سنوات التحاقه بالتدريس في الجامعة المغربية رؤية تجديدية في طرق تدريس الفلسفة. يقول: "عندما اخترت الإبستمولوجيا بدأت بالعمل على الإبستمولوجيا التطبيقية. فمنذ أن دخلت الجامعة لتدريس الفكر اليوناني القديم، بدأت منذ أوّل محاضرة في تطبيق الإبستمولوجيا، فقلت بالقطيعة بين الفكر اليوناني والفكر الأسطوري، حيث أصبح الفلاسفة يفكّرون كأفراد، بعد ما كان الفكر الأسطوري هو المسيطر قبل ذلك، وهذا ما اعتبرته قطيعة إبستمولوجية. وأثناء ذلك كان الطلبة يدركون أنهم لا يدرسون الفكر اليوناني فقط، ولكن يدرسون الفكر اليوناني انطلاقاً من وجهة نظر معينة ومفاهيم معينة أهمّها "القطيعة الإبستمولوجية" و"العائق الإبستمولوجي" كان هذا بداية من سنة 1975. هذا يعني أنني كنت أدرّس الفلسفة بالمنهج الباشلاري".
التفاعل مع باشلار لم يكن فقط على مستوى التأثر، بل إن وقيدي ظهر في كتابه "فلسفة المعرفة عند باشلار" (1980) ناقداً للفيلسوف الفرنسي. يشرح صاحب "بناء النظرية الفلسفية" تفاصيل هذه المرحلة قائلاً: "بعد كتابي عن باشلار، بدأت أفكر مباشرة في موضوع يليق بدراسات أخرى ففكرت في العلوم الإنسانية، لأني أردت أن أدرس العلوم الإنسانية في العالم العربي، وقمت بالكثير من الأبحاث التي تضمّنها كتابي "العلوم الإنسانية والأيديولوجيا" حيث أدركت أن العائق الأساسي للعلوم الإنسانية هو الأيديولوجيا".
يضيف وقيدي "من وجهة نظري، ينبغي ممارسة نقد إبستمولوجي يستخرج العناصر الأيديولوجية في التفكير. وطبّقت ذلك في الاستشراق وفي العلوم الاجتماعية وفي التراث العربي الإسلامي خصوصاً لدى ابن خلدون. وبعد هذا المسار تبيّن لي أنه لا يمكن أن أسير بعيداً في هذا الطريق. تبيّن لي أيضاً أن الإبستمولوجي يجب أن يدرس المواضيع القريبة منه. الموضوعات التي كانت قريبة من ثقافتي وثقافة زملائي هي العلوم الإنسانية وخاصة عِلمي النفس والاجتماع".
هذا الحديث يصل بنا مع وقيدي لسؤال لطالما تردّد: "هل ظل وقيدي بعد هذا المسار مع باشلار أم غادره بشكل نهائي؟". يقول محدّثنا من دون تفكير طويل: "يمكن أن أقول غادرته، لأن باشلار لم يفكّر في العلوم الإنسانية، بل فكّر في العلوم الفيزيائية والرياضية، وأنا تجاوزت ذلك عندما طبّقت بعض مفاهيمه على العلوم الإنسانية وفي هذا تجديد حتى بالنسبة لباشلار نفسه. وهذه المرحلة مثلها كتابي "العلوم الإنسانية والأيديولوجيا"".
خيار الإبستمولوجيا والنظر من داخلها إلى العلوم الأخرى، يدفعنا إلى التساؤل "لماذا الإبستمولوجيا في حد ذاتها؟". يردّ المفكّر المغربي مشيراً إلى كتابه "ما هي الإبستمولوجيا؟" وهو كتاب شائع في المغرب وفي العالم العربي، حيث قرّرت الكثير من الجامعات تدريسه، يقول "بالنسبة لي، لم أكن أجيب عن سؤال ما هي الإبستمولوجيا للتعريف بها، فهو عمل عكس انشغالي بالتعرّف على الإبستمولوجيا وكنت ألقي هذا السؤال لكي أعرف هذا الميدان الذي أصبح ميدان اهتمامي".
في كتاب آخر لا يقلّ شهرة، هو "جرأة الموقف الفلسفي"، يظهر تبنّي وقيدي لمفاهيم خاصة داخل الإبستمولوجيا وعن هذه المفاهيم يقول: "يمكن أن أقول إنني طوّرت فكرة دعوتها بـ "الإبستمولوجيا الجهوية" وأقصد أنني إذا كنت إبستمولوجياً سيهتم بصفة خاصة بالعلوم الإنسانية، فإنني كنت أريد ألا يكون اهتمامي مقتصراً على العلوم الإنسانية كما تطوّرت في الغرب بل كنت أريد أن أستفيد من الإبستمولوجيا وأطبّق مفاهيمها على العلوم الإنسانية عندنا، ولذلك فالمقصود بالجهوية "الجهوية الجغرافية" التي تعني اهتمام العالم بالعلم الذي هو مختص فيه وبمكان اشتغاله".
يوضّح وقيدي قائلاً "يعني أنني أطالب الإبستمولوجيين المغاربة بالاهتمام بالإنتاج العلمي الذي يجدونه في مجالات مثل التاريخ وعلم الاجتماع، وقد عملت فعلاً على دراسة التاريخ بصفة خاصة في عملي "كتابة التاريخ الوطني" وطبقت فيه مفاهيم إبستمولوجية، حيث درست كيف يُكتب التاريخ المغربي من طرف مؤلفين مغاربة في مقابل التأليفات التي صدرت في الفترة الاستعمارية".