محمد عبدالباري... رهان الشعر

02 مارس 2017
الشاعر الشاب محمد عبدالباري (جيل)
+ الخط -
الشعر لغة الإنسان الأولى.. هذا التعبير من طه عبدالرحمن على ما فيه من إعلاء قيمة الشعر إلا أنه يفقد الشاعر منزلته الخلاقة التي يتميز بها ومقامه المختلف الذي يزيله عن الناس، إذ هو من الناس لا منهم، ويتكلم بكلامهم لا ككلامهم.

الشاعر هو ذاك الذي يؤلف من المألوف ما ليس مألوفا..
من يأخذ المعاني المرمية في الطرقات فيخلق منها صورة -لا على مثال- تعبد بترديدها آناء الليل وأطراف النهار..

هو عازف ليل، يضرب على إيقاع اللفظ ويعزف على وتر المعنى..
فمن يحسن العزف على وتر المعنى دون اللفظ وإيقاعه فهو ناثر ناثر وإن دق بيافوخه أجراس السماء ليقال شاعر!!، ولا أعني بإيقاع اللفظ التزام بحور القدماء وأوزانهم وزِحافاتهم بل الجرس والتناغم الذي يفرق الشعر عن النثر، وأعجب به من مجاز حين وصفه القدامى بالناثر، فنثر الشيء رميه مفرقا وكذا الناثر يرمي المعاني مفرقة شعاعا، فليرض الناثرون بما يستطيعون من جمال المعاني وليستبدلوا ما لا يحسنون من إيقاع اللفظ - وكذا يفعلون - بمصاحبة العود حتى يلتهي الناس بضرب العود عن اضطراب اللفظ ونشاز السبك..

وفجأة: دندنت الساعه
ودقت الأجراس
فحلقت في الأفق.. مرتاعه!
أيتها الحمامة التي استقرت
فوق رأس الجسر
وعندما أدار شرطي المرور يده..
ظنته ناطورا.. يصد الطير
فامتلأت رعبا

معذرة سيدي هذا نص كاتب لا نظم شاعر، إنما الشاعر نسيب الأنبياء.. يأتيه ما يأتي الكهان والسحرة.. إن دخلت في ساحته أخذك من تلابيبك.. ولا ينبذك إلا مرجوجا يتهاوش فيك الحزن والغضب والبهجة والشوق، يسحرك بعزفه على أوتار المعنى ويهزك بطرقه على إيقاع اللفظ، كما قال عمرو بن بحر الجاحظ "وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج وجنس من التصوير" ويل أمه كيف قال "كثرة الماء" إشارة إلى طراوة وسلاسة السبك التي يستلذ بها دون عناء.

وما أكثر من يحاول محاولتهم لكن جنيَه لا يطاوعه، فيأتي كلامه بإيقاع لا نفث فيه ولا همهمة، فيموت بموته بل لا يقوى يحيى بحياته وإن كثر حضوره في المحافل، وكذا المرأة تنحت المرمر منذ عقود لتكون شاعرة.. أنى لها وهي موضوع الشعر ومجاز الرب، أتحسن ليلى أن تقول شعرا بليلى، إلا أن تكون قديسة.

والدهر شحيح لا يكاد يجود بشاعر أو اثنين في الأمد الممدود، ومن بركاته أن أنجب لنا بعضا من المعاصرين يبارى بهم، يقف على ذروتهم الفتى الأسمر محمد عبدالباري من يعقد الرهان عليه ليكون في مصاف الأكابر.
المساهمون