في المغرب، لا يشكّل خبر عن كاتب أو مثقّف مغربي، سوى خبر رحيله، حدثاً مهمّاً في الإعلام الرّسمي لبلده. وحتى هذا، يتم تداوله في نشرات الأخبار في ثوان معدودة؛ فمهما كانت قيمة المثقف، ليس هناك أدنى درجات الالتفات إليه إلّا من قرّائه.
لذلك، شكّل عرض الفيلم الوثائقي "محمد عابد الجابري" للمخرج المغربي عزّ العرب العلوي، حدثاً مهمّاً في الأوساط الثقافية؛ إذ تداول الكتّاب على صفحاتهم في فيسبوك خبرَ بثّه على قناة "الجزيرة الوثائقية"، وروابطه على اليوتيوب بعد عرضه أيضاً، احتفاءً بحياة هذا المفكر العربي.
تنطلق رحلة طاقم تصوير الفيلم إلى مدينة فِجيج، جنوب شرقي المغرب. يمسح المخرج أحزان المدينة بمشاهد والتقاطات لطبيعتها الجميلة وعمرانها ومآثرها. المدينة التي عانت من تقسيم قاسٍ للبلاد بحسب مواردها الطبيعية؛ وهو ما يعرف بـ "المغرب النافع" و"المغرب غير النافع".في بدايته، يقدّم الفيلم صورة عن هذه المنطقة ممهّداً لطفولة صاحب "نقد العقل العربي"؛ لنجد أنفسنا بعد ذلك في أزقّة المدينة، نسير مع الجابري صغيراً، نذهب معه إلى الكُتّاب، حيث تعلم أبجديات القراءة.
يركّز العلوي على حياة الطفولة والشباب. يسترجعها بمشاهد يتداخل فيلها التسجيلي والسينمائي. يجعلنا نمسك بهذه المرحلة ونفهمها؛ لكي نعرف آثارها في فكر الجابري. ثم يتناول حياته حين أصبح شابّاً، والتي توزّعت بين العمل والدراسة، ثم الانخراط في المشاريع السياسية والفكرية الكبرى التي تحكي تفاصيلها شخصيات مقرّبة من الجابري يختارها المخرج بعناية؛ بدءاً من رفيق دربه عبد الرحمن اليوسفي الذي يعرف عنه ما لا يعرفه غيره وأقاربه وأصدقاء طفولته.
هكذا، ترك المخرج السرد موزّعاً بين عدّة أشخاص عاشوا في حياة صاحب "تكوين العقل العربي"، مع حرصه على أن يكون كل راوٍ متناولاً زاوية معيّنة من عالمة المليئ بالتفاصيل.
وإن كان الكثير ممّا جاء في هذا الوثائقي معروفاً، بل ونقرأه أيضاً في كتابه "حفريات الذاكرة"؛ إلّا أنّ المخرج استطاع أن يعيد تقديم الجابري بطريقته الخاصة، التي تختلف عن السيرة المكتوبة أو المروية شفهياً. حياة بصريّة، موثقة بالصورة التي تضمن لها الخلود وتسهّل على الأجيال المقبلة الوصول إليها.
"شابٌّ طموحٌ، لا يقتصر على موقع ويطمئنّ إليه". هكذا وصفه أحد الأساتذة الجامعيين. وهذا ما يلفتنا إلى الجابري بعد انتهائه من دراسة الثانوية العامة التي كان المهدي بن بركة مشرفاً عليها. حينها، استدعى بن بركة الجابري لمقابلته، وعلم أنه يعمل أستاذاً في "المدرسة المحمدية"، فطلب منه أن يعمل في صحيفة "العلم".
عملٌ شكّل نقطةً مفصليّة، حيث انفتح الجابري على عالم الصحافة والفكر، وانخرط أكثر في العمل الوطني، حتّى أصبح ذلك المفكّر الذي ما زال عمله يثير الأسئلة بعد خمس سنوات على رحيله.