محمد سعيدي.. العرّاب يرحل بصمت

20 سبتمبر 2014
محمد السعيدي (بورتريه لـ إسماعيل مالكي)
+ الخط -

أثار رحيل الناقد وأستاذ الأدب الروسي في الجامعة الجزائرية محمد سعيدي (1934 - 2014) حزناً خاصاً، لامتيازه منذ فجر الاستقلال بالانحياز إلى تثمين الكفاءة، والدفاع عن حق الجيل الجديد في تولي المناصب والتعبير عن ذاته.

الفقيد كان من الأصوات اليسارية القليلة داخل جهاز الحزب الحاكم (جبهة التحرير)، عضواً في لجنته المركزية، وأميناً لمحافظتيه في مدينتي "بسكرة" و"قسنطينة"، وجاهر بوجوب الذهاب بالثقافة الجزائرية إلى المستقبل، وتحريرها من سلطة الماضي. خدم سفيراً للجزائر في ليبيا، وأميناً عاماً للمجلس الأعلى للدولة زمن العنف في التسعينيات، قبل أن ينأى بنفسه عن المؤسسة الرسمية، ويتفرغ لنقدها من الداخل، خاصة في كتابه الأخير "من الاستقلال إلى الحرية".

رأى السعيدي في هذا الكتاب أن الجزائريين استطاعوا أن ينتزعوا استقلالهم عن المستعمر الفرنسي، بعد ثورة طاحنة، لكنهم لم يحرّروا روح المبادرة لديهم، ولم يفصلوا في الزمن الذي ينتمون إليه، هل هو الماضي/ زمن البطولة، أم المستقبل/ زمن المعرفة؟

ولئن اختلف السياسيون في تقييم مسار الراحل، بالنظر إلى اختلاف التوجهات والمنطلقات، فإن إجماعاً كبيراً حصل بين مثقفي الجزائر، على كونه ناقداً ومثقفاً وسياسياً متفرداً، عارض التوجهات المتعسفة للسلطة من الداخل، وانتصر لخيارات الجيل الجديد في الثقافة والسياسة.

كان السعيدي من المساهمين الأوائل في فتح أقسام اللغات الأجنبية في الجامعة الجزائرية، ومنها قسم اللغة الروسية الذي تولى إدارته، وجعل منه نافذة على الأدب الروسي وأوروبا الشرقية، بما ساهم في تشكيل الوعي الإبداعي للكتاب الجزائريين بعد الاستقلال الوطني (1962)، وعمل مع النخبة المستنيرة في تلك المرحلة مثل مالك حداد (روائي) ومصطفى كاتب (مسرحي) ورضا مالك (مفكر ورئيس حكومة) ومحمد الصديق بن يحي (مثقف وديبلوماسي)؛ على إطلاق العديد من المبادرات التي صنعت ملامح المشهد الثقافي الجزائري، وسوّقتها في الخارج بما جعل الجزائر رائدة ثقافياً إلى نهاية الثمانينيات.

لا يُنكر كثير من الكتاب المكرسين اليوم في الجزائر أنهم خرّيجو المجلات والمنابر الإعلامية التي كان يشرف عليها فريق السعيدي، ومنها مجلتا "الثقافة" و"آمال"، وملحق "الشعب الثقافي" الذي أسّسه خصيصاً لمرافقة التجارب الإبداعية الجديدة.

كما اعترف لنا أكثر من كاتب بأنه تلقى الدعم من الراحل، في إطار نزعته إلى إضاءة التجارب الشبابية، وتثمينها والدفاع عن خياراتها الجمالية الخارجة عن التوجه العام للنظام السياسي والثقافي القائم.

يقول الروائي واسيني الأعرج "إن الذين رافقوه في السبعينيات من أبناء جيلي، يعرفون جيداً ما قدّمه الرجل للثقافة الجزائرية في بحثها الدائم للخروج من التقاطبات، إما فرانكفونية بلا خصوصية محلية، أو ثقافية تقليدية ميتة، والبحث الدائم عن بدائلَ آخرى أكثر إنسانية وأكثر تجذراً، لا تعادي ما كتبه الجزائريون بالفرنسية، ولا تقدّس من كتب بالعربية".

كان السؤال الوطني في هذه الثقافة ـ بحسب صاحب "رماد الشرق" هو القياس الحقيقي بالنسبة للدكتور محمد سعيدي. لهذا عندما كان يستشهد بأطروحات الشهيد محمد الصديق بن يحي، لم يكن الأمر عبثاً لأنه كان يدرك أن الرجل الذي شغل منصب وزير التعليم العالي والخارجية، كان يحمل مشروعاً كبيراً.

وعاد بنا الشاعر محمد زتيلي إلى المناظرة التي جمعت الفقيد بالشيخ محمد الغزالي حين كان مديراً للجامعة الإسلامية بمدينة قسنطينة، والتي انتهت بقول الغزالي للحاضرين: "احذروا هذا الرجل، فهو مثقف خطير". وبقدر الهوة السحيقة التي كانت واضحة في النظرة والطرح ـ يضيف زتيلي ـ بقدر ماكان الحوار راقياً وبعيداً عن التشجنج واللغة الهجومية:

"عشت تلك المراحل الصعبة التي كان الأستاذ يعيشها ويواجهها بعزيمة واستماتة، رافعاً رأسه باتجاه الأفق، أفق الجزائر القادمة، وكيف يجب إنقاذها من التطرف والأصولية، ومن الفهم المزيف للإسلام من طرف أشخاص ناقصي علم ودين. وكان يواجه كل ذلك وحده تقريباً في محيط متواطئ جاهل غير مهيأ وفاقد لرؤية شاملة مغروسة في القلوب والأذهان".

زتيلي استذكر المرحلة التي عرف فيها الفقيد، نهاية السبعينيات، حين عيّنه ضمن فريق مجلة "آمال" رفقة الكتّاب محمد الصالح حرزالله وحمري بحري وأمين الزاوي وعبد العالي رزاقي وعبد الحميد شكيّل، حيث وفر لهم كل الظروف لبعث مجلة حداثية تستوعب الأصوات الشابة الطالعة من بين ركام التقليد.

من جهته دعا الروائي والمترجم محمد ساري إلى التفكير في جمع كتابات الراحل المتعددة ونشرها مكتملة، والعمل أيضاً على كتابة سيرته النضالية عبر المواقع التي شغلها، وتدوين شهادات الذين تعاملوا معه لتبقى أنموذجاً للأجيال، ولتبيّن أن وسط الرداءة المستفحلة، كان هناك مثقفون صمدوا وقاوموا ورفضوا إغراءت التدمير والانسلاخ عمّا يرشد الإنسان نحو الحرية والجمال.

الصمت الذي رافق رحيل "عرّاب الأفكار الجديدة" أثار كثيراً من الاستياء في أوساط المثقفين والإعلاميين، حيث علق لنا الكاتب محيي الدين عميمور "أليس من الكوارث أن يكون "الفيسبوك" هو من ينعي هذا المثقف الكبير، بدلاً من اهتزاز كل الهيئات الثقافية الحكومية والشعبية لهذا المصاب؟".

المساهمون